مسارات عبد الفتّاح كيليطو: الانحياز إلى التيه

فوزي ذبيان
الأربعاء   2024/07/24
أكثر ما تستدعي تلك الحوارات مع الكاتب المغربي عبد الفتّاح كيليطو والمجموعة في كتاب "مسار"، دعوة القارىء لأن لا يتعقّب مآلات قراءاته، لأن لا يترصّد هذا المآلات، لأن لا يتجشّم عناء هذا الهم بالأساس. ثمة حيوية في مجمل هذه الحوارات تستبطن دفع القارىء بعامة لأن يتمتّع بجرأة مقاربة النصوص، تأويلها بما يخالف توقعات كاتبها وصولاً إلى استنطاقها بما يعاند أي إجماع تاريخي حيالها.

طبعاً، إن كيليطو ليس الوحيد في هذا السياق بل يمكن موضعته ضمن جملة من الأسماء تدفع بالمتلقي إلى امتلاك زمام تلك الجرأة... جاك دريدا، رولان بارت، أمبرتو إيكو، جورج غوسدورف واللائحة تطول وصولاً –في دنيا العرب- إلى فاضل الربيعي (في مقارباته للتراث الديني بالإجمال) وهشام جعَيْط (في مقارباته للسيرة المحمدية بشكل خاص) فضلاً عن عبد الفتّاح كيليطو في قراءته التراث الأدبي للعرب. 

تعود بعض هذه الحوارات إلى ثلاثين سنة خلت كما يقول كيليطو في المقدمة التي وضعها لكتاب "مسار" (دار توبقال للنشر) وهو لا يتوانى في هذه المقدمة عن الدعوة إلى تجنّب الحوارات إذ، كما تبدى له الأمر بعد كل هذه السنين، أن الحوارات هي بالعمق تكرار ومن بعده تكرار...". تكرار ممل شائن، تناقضات، ركاكة، تفاهات. "ما زاد من قلقي"، يضيف الكاتب المغربي حيال هذه الحوارات، "هو أنني تبيّنت أنني سجين دائرة ضيقة من المواضيع والقضايا لا أبارحها ولا أمل لي بتخطّيها". بيد أن هذا اللاتخطي تحديداً هو ما يشكّل – كمتلق لكتابات كيليطو – روعة هذه الكتابات. فرغبة النصوص بعدم الاستقرار، عطفاً على مقاربات كيليطو لها، هو ما يشكّل جوهر تناول كيليطو لها. إن النص ليس واقعة مستقرة قارة فهو بالأحرى جملة من الإحتمالات ومن التوقعات ومن اللامحدد بالإجمال.

في جوابه عن سؤال يتعلق بالصورة التي يشكّلها عن قرائه يقول صاحب "الأدب والغرابة" إن هذه الصورة تقوم على التوجّس والإرتياب بشكل خاص مستوحياً في ذلك الجاحظ الذي يقول في كتاب "الحيوان": "وينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء" وهو ما توسّع به عبد الفتّاح كيليطو ملياً في كتابه "الأدب والإرتياب". إن أكثر ما تشي به كتابات كيليطو بالإجمال هو أن كل نص هو بالعمق تعديل لنصوص أخرى أما في كتاب "مسار" فإن أنا الكاتب المستنطَق من قبل محاوريه ـ وهو هنا كيليطو – هي تعديل لأنوات أخرى. إن هندسة "أنا" الكاتب في هذا السياق الحواري المتعدّد الجوانب والمقاربات والأزمنة هي في بعض جوانبها محاولة من كيليطو للوقوف عند الحدّ الأقصى للعبارات التي أسست بنيانه الفكري. فعلى الرغم من أن بعض هذه الحوارات يعود إلى سنين مضت كما مرّ أعلاه، فإن كيليطو لا يني يسأل عن إمكان كتابة الذاكرة ليصل بعدها إلى النتيجة التالية: "إن الذكريات التي تهمني هي تلك القابلة لأن تصبح أدباً". فالأدب هنا هو البوصلة... إنه تركيز الأنا، جمع شتاتها، تحيين ماضيها في الحاضر بما يحفل به هذا الماضي من وعود وصعود وهبوط. فاللحظة المطلقة في هذا الصدد هي فقط لحظة الكتابة.

..."سأستمر في الكتابة لأساهم في مقاومة النسيان" يقول كيليطو رداً على أحد الأسئلة. 
لا أخفي أن هذه المادة هي انطباعاتي الشخصية عن حوارات كيليطو بعد مرور ما يقارب السنة على قراءة هذه الحوارات. فهذا النص يقوم على إعادة صياغة لتلك الملاحظات التي كنت قد دوّنتها فوق فراغات كتاب "مسار". ولعلّ أبرز انطباع أمدّتني به هذه الحوارات هو التالي: إن الكتابة في نهاية الأمر هي استدراج للسكينة... استدراج هادئ للسكينة على غفلة من العالم. ولعلّ ردّ كيليطو على سؤال يتعلق بالكتاب الذي يودّ أخذه معه إلى جزيرة معزولة دليل على صحة انطباعي حيال الكتابة\ السكينة: "لسان العرب" لابن منظور هو ما يفضلّ كيليطو اصطحابه إلى تلك الجزيرة المعزولة وكأن ثمة تماه بين السكينة والكلمات، بين العزلة والنص، بين الجزيرة المعزولة والأنا الحقيقية للكاتب. من النافل أن النص، أي نص، ليس واقعة جوّانية بإطلاق، لكنه أيضاً ليس محض واقعة برانية والكلمات في هذا السياق هي نهايات تستأنف بدء جديد، الكلمات هي أنا أخرى تخص الكاتب بالدرجة الأولى، أنا معزولة إلا عن ذاتها... وللمتلقي فيما بعد حرية التصرف بهذه "الأنا".

يقول كيليطو في "مسار" أن الكتابة إما أن تكون لعباً أو لا تكون، وأنا أخال أن اللعب في هذه العبارة هو مداورة "أنا" الكاتب أو مراوحته بين جوّانه والعالم. ما فائدة أن نكتب – يكمل كيليطو – إذا لم نلعب في الآن نفسه بالكلمات والصور وبالذاكرة بشكل خاص!! وتبقى السكينة المتولدة عن هذا النشاط هي المهماز الذي يجيز كل الصياغات.

أما القارىء، وإن كان يشكّل حيّز المغايرة بالنسبة إلى النصوص، فهو لا يستطيع أن يكون محايداً، ذلك أن الفضاء الثقافي الذي ينتج النصوص أو الفضاء الأبستمي (كما تقول جماعة فوكو) يلزم هذا القارىء أن يكون عبر فعل القراءة كاتباً، أن يملأ فراغ النصوص، أن يهيىء فعل استنطاقها وأن يبتكر على الدوم دلالة أخرى ربما تنحاز إلى ما سبق أو تنحاز إلى ما هو مخالف. 

إن أجوبة كيليطو في "مسار" تجيز لقارئه في تفتيشه عن الصواب أن ينحاز إلى التيه، إلى الضباب بل وإلى التواري باعتبار القارىء هو إبان فعل القراءة كاتباً. وربما هو، أي كيليطو، قد بلور هذه الفكرة بوضوح في المقطع الأخير من رائعته "الكتابة والتاريخ – مفهوم المؤلف في الثقافة العربية" حيث، وبدفع تأويلي ما لهذا المقطع الأخير، إن تواري المؤلف\القارىء هو ضرب من الصواب والأمر أشبه بانحناءة المرء لشرب الماء حيث ترتسم صورة الملامح فوق هذا الماء بيد أن هذه الصورة لا تلبث أن تزول مع الجريان البطيء للسيل الذي يحمل هذه الملامح إلى حيث لا مستقر لها على الدوم ولا قرار.