الخميس 2024/10/24

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

"هند" هدى بركات: المختلِف الفَرْد في خِضمّ الجماعة

الخميس 2024/10/24
"هند" هدى بركات: المختلِف الفَرْد في خِضمّ الجماعة
طوال الرواية تتحدّث عن نهرٍ لا مياه فيه، أي لا حياة
increase حجم الخط decrease
تطلّ علينا بطلة هدى بركات في روايتها الصادرة مؤخّراً هند أو أجمل امرأة في العالم(*) ملفوظةً من "أرض الله الواسعة (...) كالحيتان النافقة". وكما أطلّت علينا منذ الصفحة الأولى مرميّة نافقة، تغادرنا وهي على حافّة ما بين عالمَيْن، بين بلادٍ أخرى قصدتها ولم تجدها، وبلادٍ تعود إليها ولا تجدها أيضاً. والأحرى أنّها، كما تؤكّد في النهاية كانت وحيدة وستبقى وحيدة، "لم أغادر أحداً ولم أجد أحداً يستقبلني".

تروي هند، بطلة الرواية، قصّتها، منذ أصيبت بالمرض الذي شوّه خلقتها وأفقدها جمالها الفائق، هي أجمل امرأة في العالم كما كانت تراها أمها. هو مرض الأكروميغاليا، مرض تضخّم الجسم والنمو السريع الذي لا علاج له. ومع مرضها هذا تبدأ رحلة عزلتها القسريّة وابتعادها عن الناس، مع أنّها لم تُعدَم، لا في موطنها ولا في الغرب، أناساً لاقت منهم المحبة والاهتمام.

تبدأ عزلتها عن طريق أمّها التي، عندما يئست من محاولات الطب لشفائها، حبستها بكلّ معنى الكلمة في علية البيت، حيث كانت تمدّها بالطعام وحاجاتها، بين بعض كتب ومجلات وحوائج من والدها كانت تتسلّى بها. ولكنها في النهاية تتمكّن من النزول من العلية والهرب من بيت والدتها وينتهي بها المطاف عند إحدى عمّاتها في إحدى القرى اللبنانية، وتلقى منها كلّ اهتمام. لكن عمتها أرادت السفر عند أولادها، ودبرت لها سفرة إلى فرنسا للعلاج، وأعطتها رقم عمتها الثانية المقيمة هناك، والتي لم تحضر لاستقبالها على المطار ولم تُجِب على اتّصالها، فوجدت هند نفسها وحيدة في المطار لا تعرف ماذا تفعل، إلى أن انتبهت إليها غلوريا، وهي مهاجرة افريقية، حاولت مساعدتها وعندما لم تعثرا على عمّتها أخذتها معها إلى بيتها حيث أقامت معها فترة، قبل أن تنتقل هي بدورها (غلوريا) إلى سويسرا وتتركها لها البيت.

في فرنسا، تخضع للعلاجات، ولكن عندما تحسّ أنها تحوّلت فأر تجربة تتخلى عن ذلك وتهرب إلى حياة التشرّد والعيش في المآوي قبل أن تتعرّف بفرانسوا، المبتور اليد والذي يعيش حياة المشرّدين، يأويها في غرفته الهزيلة، وتكتشف أنّه من أصل عربي واسمه الأصلي رشيد. وتنشأ بينهما علاقة حبّ، تنتهي عندما يعود رشيد إلى حياة المشرّدين الفاسدة ويُغرق فيها.

تهرب من رشيد، وتعود إلى لبنان، إلى بيت والدتها التي يبدو أنّها غادرت هذه الحياة، فتقيم في المنزل، في الطابق الخامس من أحد الأبنية المتضرّرة في الحرب، وخصوصاً في انفجار المرفأ. طبعاً الطابق الخامس يجعل حياتها كابوساً، هي التي يتفاقم مرضها، خصوصاً عندما ينقطع التيار الكهربائي. لكنها في إقامتها هذه تتعرف بنبيل الذي تنشأ معه علاقة صداقة وثيقة، فيرعاها وتلقى منه كلّ مساعدة، قبل أن يغيب بشكل مفاجئ. ثمّ تتعرّف بأحمد، الذي يشتغل في محل انترنت، ويساعدها أيضاً، خصوصاً في محاولات العثور على والدها أو معرفة من هو إذ كانت تجهل كلّ شيء عنه. وتنقطع علاقتها بأحمد أيضاً في ظرفٍ مؤلم، لتعود في النهاية إلى وحدتها، في منزلها، وعلى ضِفة النهر الذي كان ملاذها وملجأها في أيّامها العادية. هو بالأحرى مجرى لما كان نهراً في ما مضى، وعندما تعود إليه تجد فيه حبل ماء جارٍ بعد موسم ثلوج كثيفة.

الثنائيّات المُتحكِّمة
هند أو اجمل امرأة في العالم  هي رواية المختلف في المجتمع، رواية التناقض أو التعارض بين مختلف وجوه الحياة والبشر. أردات فيها هدى بركات الكشف عن واقع أو معاناة هذا المختلف في مجتمعه، فصوّرت القبح في مقابل الجمال. هند تتحول من فتاة آية في الجمال إلى إنسانة متضخّمة ومتحوّلة ومكتسبة ملامح ذكورية كثيراً ما أخطأ الناس فيها. كما صوّرت العطب والنقص في مقابل السلامة والكمال، فرشيد مبتور اليد لكنه يتميّز بالشخصيّة القويّة التي تؤهله لمواجهة تحدّيات المجتمع. إنها رواية التعارض بين الآخر والأنا أو النحن. وهو ما نلمسه مع غياب نبيل المفاجئ الذي يتبيّن فيما بعد أنه من "الجماعة" الأخرى كما يخبرها جارها الغاضب منه. وهي أيضاً رواية التحدّي بين الفرد والجماعة، كما نتبيّن من علاقة الأم بمحيطها، والتي تخاصم الجميع، من أهل بيتها إلى رجال الدين والطائفة إلى المجتمع.

الجمال والقبح، هند وهنادي
هذه الثنائيّات تعكس حالات الانفصام في المجتمع والتحدّيات الناجمة منها. وأشدّ ما يظهر هذا الانفصام هو في حالة هند التي تتحوّل هندَيْن، لكن ليس في شخصيتها، وإنما في نظر الأمّ التي لم تتقبّل التحوّلات التي راحت تظهر بقوة على ابنتها، فأَماتت في نفسها المريضة، هند الجميلة لتلِد بعدها في خيالها هنادي التي لاحقها القبح، والتي عزلتها بكل معنى الكلمة عن العالم، وعنها هي نفسها لتبقي على صورة الجمال في ذهنها. لا يضيع القارئ أو لا يفوته أن يكتشف هذه اللعبة النفسيّة التي تلعبها الكاتبة بما تركته من انعكاسات في شخصية الأم وشخصية البنت. "آتي إلى هنا (الى النهر) هرباً من مخلوقات الربّ، إذ قبل أن يضرب نخاع رأسي ذلك المرض اللعين ويحوّلني إلى عاهةٍ متنقّلة، كنت أجمل تلك المخلوقات، في البلاد وخارجها، في الوطن والمهجر كما كانت تقول أمي. ليس هناك في الدنيا التي خلقها الله أجمل من بنتي، ليس هناك أحلى من هند، من هنادي، ليس هناك أجمل من بنتي (...) ليس هناك أجمل مني (...) لا تكذب امي حين تُغفل الاسم، لكنّها تدّعي، والفرق كبير بين الكذب والإدّعاء".

وكثيرة هي التصريحات والتلميحات إلى حالة الانفصام، ومن بعدها حالة الإنكار التي عاشتها الأم وأوقعتها في حالة نفسيّة مريضة إلى حدّ الجنون، "منذ بدأت أمّي ترى أني لست هند، ابنتها البكر، قرّرت ألا تراني أو يراني أحد؟"، "أزاحتني عن عينيها" و"لماذا أرادت أمّي محوي من أيامي السعيدة بقربها؟"...

وإن بدت شخصية الأم هي الأقوى بين أبطال القصة، إلا أنّ بعض الشخصيات الني رسمتها بركات لا تقلّ عنها شأناً، في سلبيتها أو إيجابيّتها. شخصية رشيد، وهو أيضاً صاحب العاهة أو النقص، والذي يواجه الحياة بما أوتي من قوةـ لا تعرف هند من أين استمدّها لأنّها لم تعرف الكثير عن ماضيه. وإلى شخصيتي نبيل وأحمد، تبقى شصية غلوريا هي الأقوى، وقد منحتها الكاتبة حيّزاً مهماً في تصويرها. غلوريا هي ذكر متحوّل، فارٌ من أهله في نيجيريا حيث أرادوا قتله، واختار شخصية المرأة والاسم غلوريا. وعملت غلوريا راقصة استعراض في أحد الملاهي، قبل أن تتعرض لمشاكل مع عشيقها، وتغادر إلى سويسرا حيث ستشتغل مومساً. لكنّها أبدت لهند من المحبة والحنان والرأفة والعناية، ما لم تجده هذه الأخيرة عند أمها ولا عند عماتها؟ ويمكن القول إنّ شخصية غلوريا كما رسمتها بركات هي شخصيّة سينمائيّة إلى حدٍّ كبير.

التحسُّب للمصير، للنهاية...
عبر هذه الشخصيّات ومعها تستكمل هند أو هنادي مسيرة حياتها، وليس من دون خوف عن وقوعها في العزلة مجدّداً بعد غياب الذين مدّوا لها يد العون... ولذلك ترى نفسها مجدّداً جالسة على ضفة النهر الذي ليس بنهر، منتظرة مع عودة بعض المياه إلى مجراه ما سيؤول إليه وضعها. ربما تغيب كما غابت تلك الصفصافة التي صمدت عند جفاف النهر، والتي لم تجدها عندما عادت إليه المياه.

الراوي طاغي الحضور
تسوق هدى بركات أحداث روايتها عبر خطّ سرديّ واحد مستقيم، في حبكة عاديّة بسيطة تخفّ فيها التوتّرات القوية والمفاجآت لحساب الصور والحالات المستقرّة، بما يسمح للقارئ التعمّق في الحالات النفسيّة التي تتحكّم بأبطالها، وبما يسمح للكاتبة بإيصال فكرتها، أو نظريتها، التي تدعمها بالكثير من الاستشهادات أو الاستطرادات التي تستمدّها من التاريخ او الديانات أو العلوم، كما في حكايتها عن القديسة ريتا، أو عن منظار هابل أو عن محاولات العلماء توطين النباتات الشرقية في البيئات الغربيّة الغريبة عنها.

عملت الكاتبة على إحياء حركة النصّ عبر التنويع في زمن السرد ومكانه، ما بين لبنان وفرنسا، لكن ذلك بقي ضمن الخطّ السرديّ العام الذي تطوّرت معه الأحداث بشيء من التباطؤ الذي يساعد القارئ، كما ذكرنا، على التشبّع من الحالات الموصوفة، المرضيّة النفسية منها بنوع خاص.

وقد اعتمدت الكاتبة في روايتها صوت الراوي، وهو هنا صوت بطلتها هند التي تحكي قصتها، لكن يبدو لنا أنّ الكاتبة المؤلفة استعارت هذا الصوت لتتولّى هي السَّرد، ما جعل هذا الصوت، صوت الراوي، طاغي الحضور، ومغطّياً على سائر أصوات الشخصيّات التي بدت معه دمى يحرّكها بما يخدم مسار البطلة الرئيسة التي تدور حولها الرواية.

بين الأثر والإهمال
سرعان ما يكتشف القارئ أن أحداث الرواية تدور في بيروت، في مكانٍ ما حول نهر الموت، وذلك في زمن الحرب والمعارك، وعلى الأخصّ بعد انفجار مرفأ بيروت الشهير الذي كان له أثره البالغ على هذا المكان. وإن تكن الكاتبة قد كرّرت غير مرة ذكر ذلك الانفجار المهول، أحياناً بالتصريح مباشرةً، وأحياناً بالتلميح، خصوصاً عبر كلمة "العصف"، إلا أنها لم تتوقّف عنده طويلاً، ولا عند سائر وقائع الحروب اللبنانية وناسها، ولم تولِه الاهتمام الزائد كما يمكن أن يتوقّع القارئ، وكما نشهد في بعض الكتب التي صدرت وتناولت هول تلك الليلة، ليلة الانفجار بالتفاصيل الدقيقة.

بدا لنا أنّ هَمَّ الكاتبة هدى بركات هو التركيز على الإنسان الفرد في مواجهة الجماعة، في كفاحه اليومي من أجل البقاء والاستمرار. فنحن لم نرَ هند متأثرة بالحروب ومتفرّعاتها، وبالانفجار، بقدر تأثرها بحالتها المرضيّة المستعصية، والتي هي وحدها تحدّد مسارها ومصيرها. ولذلك ربما، وضعت الكاتبة بطلتها حيث أرادت وأحبّت دوماً أن تكون على ضفة نهر "الموت"، بما في هذه الصورة من رمزيّة. طوال الرواية تتحدّث عن نهرٍ لا مياه فيه، أي لا حياة، وقربه صفصافة باكية وقد بقي فيها رمَقٌ من حياة. لكن عندما تعود إلى المجرى بعض المياه نرى الصفصافة، رمز الحياة هناك، قد اختفت، أتراها هي حال وحياة هند نفسها؟

رواية هند أو أجمل امرأة في العالم، هي رواية الانسان المختلف، المعوّق، المنبوذ حتى من أقرب الناس إليه، القبيح المكروه العائش على هامش الحياة، لأن الناس لا تحدس إلا بالجميل والجمال. لكن كأنّي بالكاتبة أرادت أن تؤكّد أنْ حتى هؤلاء الناس قد يجدون مكاناً ومكانة لهم في الحياة، ويلتقون من يهتم بهم ويغمرهم بالحبّ والحنان كما حدث لهند مع الأشخاص الذين عبروا في حياتها في الخارج وفي لبنان، حتى وإن كان مصيرهم في النهاية الانتظار وحيدين وعُزّلاً على ضِفة النهر السائر إلى النهايات المجهولة. 


(*) هدى بركات، هند أو أجمل امرأة في العالم، دار الآداب، بيروت، 2024، 502 صفحة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها