الأربعاء 2024/10/23

آخر تحديث: 14:30 (بيروت)

دموع أحمد قعبور بلا بكاء

الأربعاء 2024/10/23
دموع أحمد قعبور بلا بكاء
غارة اسرائيلية على الغبيري(غيتي)
increase حجم الخط decrease
كتب الفنان أحمد قعبور في فايسبوكه: "تركت أخي في "بدارو" بعدما وصّاني أن أسلك طريق "المتحف" الا أني وعلى غير هدى، سلكت طريق "الطيونة" لأفاجأ بجمهرة شبان متأهبين لتصوير ما سيُرصد بعد دقيقة واحدة. غارة أسقطت مبنى من عشرة أدوار. من عادتي أن أتصبّب عرقاً في حالات الغضب والقلق والتوتر. تداعى المبنى إلى يساري وتمايلت بي السيارة وحضرت وجوه أحبتي وظننت أني لم أتعرق كعادتي. ركنتُ سيارتي، وحين وصلتُ أمام البيت اكتشفت أني اضعت مفاتيحي، ضربت الباب ففتحت جارتنا لأفاجأ أني لست أمام بيتي. حملتني قدميّ إلى بيتي وإذ بمفاتيحي بين أصابعي. فتحت. دخلتُ إلى حمامي وثيابي مبلّلة من دون أن أشعر. نظرت إلى وجهي في المرآة وقلت في سري: كيف لعينين تدمعان دون أن تبكيا!؟"

الأرجح أن هذا الكلام يختصر واقع لبنان وأفراده وناسه وقراه وأشجاره وبيوته وقططه، اليوم، في ظل الحرب الجحيمية عليه... بمنأى من النظريات والقيل والقال والوفود والتصريحات والعنتريات والسكوبات التلفزيونية وأبواق العجرفة والتخوين. لبنان أصبح شلالاً من الدموع والحسرات والخسارات، والهزائم والأزمات...

في اللاوعي، وأمام مشهد تدمير المباني، نشعر أنها تسقط على رؤوسنا كل يوم، والنار تلتهمها.
***
لا شيء يمكن قوله أو الهمس به، أمام أعداد الضحايا والقتلى والمشرّدين والنازحين والأمهات الثكالى والجرحي والمعطوبين، سوى التفجع، أو لا نملك سوى التفجّع وشتم الحرب والدموع.

لا شيء يمكن قوله أمام الدمار الكبير والخراب المهول والمباني والأسواق والأماكن التي تترمد بالصواريخ، سوى سرد الذكريات والحكايات، وشتم الحرب وساعة الحرب، مع أن الشتيمة لم تعدْ تشفي. صار الرجاء والأمل بقليل من الأمان، بيوم بلا غارات أو جدار صوت...

نشتم الحرب ونرفع الصوت، مع اليقين المسبق أن أحداً لا يسمعنا، لا القريب ولا البعيد، لا الصديق ولا العدو، لا أحد يريد أن يسمعنا. ومع علمنا أن الأميركي أقفل الباب وسيرسل مزيداً من الصواريخ والقذائف ومزيداً من أدوات التوحش والبربرية، مع بعض التوابل اللفظية يعبّر  فيها عن قلقه، لكن مع تبنيه الكامل لنتائج الحرب. ومع علمنا أيضاً بأن الإيراني سيرسل مزيداً من "العواطف" ومزيداً من التشجيع على الخوض في الجحيم.

لا بأس أن نعترف، بأننا، خطوة خطوة، وصلنا إلى الحرب، وصرنا في قلبها وجهنمها وسهامها، فقدنا آلاف الأشخاص وخسرنا ذاكرة مدن وأسواق قديمة ومنازل، وصار خوفنا على الآثار المتبقية. خطوة خطوة، صارت الحرب في كل لبنان، وفي قلب بيروت.

نشتم بقوة ونسخط ونستاء وندمع، ونحن نعلم أنه كلما حضر أنبياء التوراة وأساطير الغيب، كلما كانت الحرب أكثر جنوناً وشناعة أشد فتكاً.
***
لم يأخذ المتحاربون "دروساً" من فظائع الحروب السابقة ليتقاعدوا، بل سخروا من كل الوسائل التقنية والعلمية للحروب لتكون أدوات القتل أشد احترافاً، وأدوات التدمير أكثر تدميراً...

آلهة الحرب لا ترتوي ولا تشبع من التوحش.
الحروب الحديثة تتطور وتسير نحو مبدأ "صفر إنسانية".
زحمة الطرق الإيديولوجية والتوراتية تجعلنا بلاد الأحزان والدموع.

نتأمل القرى والبلدات والأماكن المدمرة أو المحترقة والوجوه الغائبة، ونتذكّر. أو من/ما الذي يمكن أن نتذكره. هل يفيدنا التذكّر؟ هل نقدر على النسيان؟ هل البيوت مجرد جدران؟ هل الوجوه القتيلة، مجرد كائنات بيولوجية؟

لعنات الخطاب الداخلي في تسابق مع التدمير الخارجي. كثر يُشبهون محمد سعيد الصحاف، الابتذال يغدو إله كل شيء. الحرب الخارجية تلتهمنا، وبدأنا نحذر ونخاف من حرب أخرى داخلية.

الحرب تلتهم لبنان، ترعب أطفاله وشبابه وشيوخه. تمزق بعضهم. تسقط دموعنا بلا بكاء، ولا يملك بعض الناس شيئاً سوى العودة الى مقولات الفلاسفة والأدباء والأفكار الميتافيزيقية والرومانطيقية.

منذ عقود، منذ حرب الخليج الثانية وبعدها اتفاق أوسلو و11 ايلول والثورة السورية وصعود داعش، والمحافطون الجدد في أميركا، وغلاة إسرائيل وبعض الممانعين، يتسابقون على رسم صورة للشرق الأوسط الجديد، والحديث عن "الفوضى الخلاقة"، وأقدام ايران على ضفاف المتوسط. كل السيناريوهات كانت مزيداً من المدن المدمرة، ومزيداً من الميليشيات والدول الفاشلة، ومزيداً من الأرامل، مزيداً من توسيع المقابر، وهذه الحرب في لبنان وقبلها، تكملة على ما تبقى.
***
الانتهازيون كثر في الحرب والمآسي. انتهازيون من الشعب ينتظرون فرصة، وانتهازيون من السياسيين وأشباههم يتبرأون من اللحظة التي أرسوا قواعدها والآن يتهربون من نتائجها، أو الطريق المرسومة لها.

الحرب تلتهم لبنان وأخضره وناسه وملتقاه وساحته، والطامح للكرسي الرئاسي ينتظر الميدان. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها