الخميس 2024/10/17

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

"قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة" لعزمي بشارة...بين مسألتَين

الخميس 2024/10/17
"قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة" لعزمي بشارة...بين مسألتَين
قضية فلسطين هي قضية ظلم، لا يمكن حلّها إلا من خلال تطبيق العدالة
increase حجم الخط decrease
يركز كتاب "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة"(*) للمفكر والباحث العربي الفلسطيني، د.عزمي بشارة، على بحث واقع قضية فلسطين ومستقبلها في ضوء تجارب المؤلف الطويلة، والأحداث الجسام لهذه القضية. يقارب بشارة القضية الفلسطينية بصفته شخصًا عايشها، كما أنه يعرف إسرائيل؛ ذلك أنه عاش في فلسطين، داخل حدود 1948 حتى قَسْرِه على الخروج منها، وكان خائضًا في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية الإسرائيلية، ومتآلفًا مع حياة الفلسطينيين في الداخل والمنافي. وهو يقرّ بأنه ليس محايدًا في كتاباته. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يكتب بأكبر مقدار ممكن من الموضوعية النقدية والعلمية، وليس الحياد الذي يساوي بين الظالم والمظلوم، والمحتل والرازح تحت احتلاله. يبدأ الكتاب بـ"النكبة" الفلسطينية، لا لغرض السياق التاريخي فحسب، إنما لتعريف موضوع الكتاب أيضاً. والنكبة على ما نعلم ونعرف هي المصطلح المستخدم للإشارة إلى سلب الوطن الفلسطيني من أجل تأسيس دولة إسرائيل العام 1948.

يناقش الفصل الأول هذا الحدث الكبير، متطرقاً إلى آثاره وأبعاده المختلفة والأساطير التي نُسجت حوله. كما يناقش معنى هذا الحدث وعواقبه ومضامينه وأهميته الرمزية، مع اهتمام خاص وإظهار أن القضية لم تُولد أو تنشأ في العام 1967، وأنها لا تقتصر ببساطة على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلَّين، على الرغم من مركزية هاتين الكتلتين من الأراضي وسكانهما، للقضية الفلسطينية، وحصر المقاربة السياسية الدولية لهذه القضية فيهما.

والسبب الأهم في افتتاح عزمي بشارة لهذا الكتاب بالنكبة هو أنه، في مجمله، محاولة لتبيان أنّ قضية فلسطين هي قضية ظلم، لا يمكن حلّها إلا من خلال تطبيق العدالة، وأنها ليست ببساطة مأزقاً ينتظر "حلولاً خلاقة"، وفقاً للكليشيهات الرائجة. وفي نظر المؤلف، تقوم العدالة أساساً على توازن متغير تاريخياً بين المكوّنين الرئيسَين للعدالة، وهما المساواة والحرية. وفي ما يخص الشعب الفلسطيني، تستلزم حريته تحرّره من الاحتلال الذي يجرّد الفلسطينيين من الحقوق الأساسية، كما أنها تقتضي تحريره من حالة اللجوء. وللمساواة بين الشعبين الموجودين في المنطقة، بين الأردن والبحر المتوسط، صيغتان: الصيغة الأولى هي المواطنة الكاملة والمتساوية في إطار دولة واحدة، حيث ترتكز هذه المساواة على إعتراف متبادل بين الشعبين كل منهما بهوية الآخر وبحقوقه الجماعية، وعلى ضمان المساواة في الحقوق لأفرادهما بوصفهم مواطنين في هذه الدولة. والصيغة الثانية هي المساواة بين الشعبين في إطار دولتين منفصلتين سيدتين، لا تخضع أي منهما للأخرى. الأمر الأساسي في جميع الحالات هو تذكّر جوهر المشكلة: أن المسألة بدأت بالاستعمار الاستيطاني الذي استتبعه احتلال، وتطهير إثني وتهجير قسري للسكان الأصليين، ومصادرة ممتلكاتهم لتعبيد الطريق لإقامة دولة يهودية ولتحويل الأقلية اليهودية إلى غالبية في فلسطين.


يناقش بشارة في أن ما زاد المسألة الفلسطينية تعقيداً وعرقل تحرّر الفلسطينين، هو التداخل بين ما يسميه "المسألة العربية"، وما يشار إليه في أوروبا منذ القرن التاسع عشر بـ"المسألة اليهودية". وإن موقع فلسطين الاستثنائي عند تقاطع هاتين المسألتين، قد عقّد المسألة الفلسطينية وفاقم معاندتها. يبحث الكتاب بالتفصيل أبعاد هذا التعقيد في اقتران مع مسألتَي الذاكرة والنسيان. ويناقش أيضاً أصل الصراع العربي–الاسرائيلي، وينتقل الى مناقشة أهمية المسارات الثنائية بين بعض الدول العربية وإسرائيل. وتقتفي هذه الفصول مسار حركة التحرّر الوطني الفلسطينية من مرحلة التكوين إلى مرحلة البندقية أو الكفاح المسلح، وبعد ذلك استسلامها لفخ إقامة السلام مع إسرائيل بطريقة تركت كل المسائل الأساسية بلا حلّ. إذ لم يكسب الفلسطينيون شيئاً في المقابل سوى اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي حصل فقط بعدما حوّلت الحركة مسألة القضية الفلسطينية من القضية الأولى التي توحّد العرب بلا منازع، إلى نزاع اسرائيلي فلسطيني حصرياً. وتهمشت منظمة التحرير بعد الإعتراف بها، إذ أصبحت مجرد دائرة من دوائر السلطة فاقدة السيادة التي أنجبتها الاتفاقيات. وكانت نتيجة هذا التطور إقامة "سلطة" فلسطينية لا تملك سيادة ولا دولة، ولا حاجة للقول إن هذا التطور لم يحل القضية الفلسطينية. وبدلاً من ذلك، حرّر اسرائيل من الأعباء اليومية لإدارة الاحتلال مباشرة.

يبدأ القسم الثاني من الكتاب بقراءة تحليلية لاتفاق ترامب-نتنياهو في العام 2020. ربما تكون هذه الصفقة قد تلاشت ظاهرياً من المشهد السياسي، على الرغم من الضجيج الذي إثارته في عهد إدارة ترامب. لكن العقلية التي حكمتها، استمرت من بعدها، وبعض الدولة العربية ذهب إلى إلقاء اللوم على الضحية (الشعب الفلسطيني) لتبرير التحالفات التي عقدتها مع اسرائيل من أجل تعزيز تحالفاتها الثنائية مع الولايات المتحدة. وثمة تقليد طويل من هذا النوع من التفكير الاستراتيجي، يرجع الى النكبة، ويتضمن المتاجرة بالقضية الفلسطينية كوسيلة لكسب بعض النفوذ في سياق العلاقات الدبلوماسية مع القوى الغربية. أما هرولة الدول العربية للتطبيع (أو إعلان التطبيع، على نحو أصح) والتحالف مع إسرائيل، بدعوى الحفاظ على استقرارها وحماية نفسها من إمكانية تخلي الولايات المتحدة الأميركية عنها، كما حصل مع حلفاء مقرّبين لها في أثناء الثورات العربية، فيرى بشارة أنه يجب الكشف في هذا المضمار عن حقيقة أن التحالفات بين دول خليجية وإسرائيل كانت قد سبقت التطبيع؛ إذ إنها أُقيمت بعد انتفاضات 2011، وقبلها أيضًا، وكان ما يجمع الطرفين خشية إسرائيل من الانتقال الديموقراطي في العالم العربي أولًا، وخشية العرب من إيران التي تقوم سياساتها على أسوأ استغلال للتنوع الطائفي في البلدان العربية وتفتيت مكوناتها المجتمعية ثانياً.

يكرس الباحث فصلَين لمناقشة ما العمل في المستقبل، ومدى صلة هذه المسألة بتحليل طبيعة النظام القائم في فلسطين في بداية العقد الثاني من القرن العشرين. وفي هذا السياق يتناول د.عزمي بشارة مصطلحَي الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري. ويمكن استخدام المصطلحَين لتحليل الواقع الحالي واكتساب فهم أوضح له، لكن اختيار برنامج سياسي ما، يتوقف على ما هو أكثر من نماذج تحليلة. يسأل المؤلف: أينبغي أن يركز النضال الجمعي على محاربة الفصل العنصري وعلى الكفاح من أجل حقوق متساوية في دولة واحدة؟ أم ينبغي أن يسعى لإقامة دولة فلسطينية منفصلة وديموقراطية وذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع عزة؟ ليست هذه المهمات نظرية أو مجرّدة، ولا تستنبط بالضرورة من نماذج التحليل، بل هي عملية استراتيجية في جوهرها، وترتبط بتشخيص الظروف، بما فيها الواقع الاجتماعي والوعي الشعبي، مثلما ترتبط بالإرادة السياسية.

في الفصل الأخير، يناقش عزمي بشارة أفكاراً ذات صلة باستراتيجيات النضال الفلسطيني، منطلقاً من رؤية أن أي دراسة أكاديمية غير قادرة على اقتراح نظرية خائضة للمقاومة، فاستراتيجيات المقاومة لا تعمل تجريدياً، بل ترتبط مباشرة بأنماط التنظيم وبفاعلين من البشر وبظروف ملموسة من مكان وزمان محددَين. في حالة الشعب الفلسطيني، يكتسب واجب المقاومة أهمية خاصة، سواء اتخذ التحرير شكل دولة فلسطينية، أم دولة ثنائية القومية عربية-يهودية، أم شكل اتحاد فيدرالي من دولتين.

وبالتوازي مع إصدار الترجمة العربية لكتاب بشارة "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة"، في خضمّ أتون الحرب المجرمة التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة، والتي اكتسبت صفة "حرب الإبادة الجماعية"؛ وبعدما حسم الباحث أمره بشأن عدم جواز تجاهُل أيّ إصدار جديد لحرب شاملة كالتي تُخاض ضد الشعب الفلسطيني، حتى لو كان ترجمةً لكتاب صدر قبل نشوبها، فقد لجأ إلى خيار جعل هذا "الفصل" المقترحة إضافته، خارجَ الكتاب، على شكل كتاب أصغر يُرفق به؛ ومن ثمّ تكون قراءته منفرداً أمراً ممكناً. وهكذا، خرج إلى النور كتابُ "الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة"، الذي كان الفصلُ المطلوب أولَ فصوله الأربعة (عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة)، وأطولها (71 صفحة)، في حين مثّلت الفصول الثلاثة الأخرى ثلاثة نصوص متفاوتة الحجم نشرها الكاتب في أثناء الحرب. ويركّز أول هذه الفصول على تقييم حرب إسرائيلية مجرمة ما زالت جارية في غزة، في إثر عملية "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ويركّز كذلك على خلفية هذه الحرب ودوافعها، وأسباب استمرار إسرائيل فيها، وإخفائها مخططات ما تسميه "اليوم التالي"، على الرغم من الخسائر التي تلحق بها. كما يكشف عن حجم جريمة ما ترتكبه إسرائيل من أعمال إبادة جماعية وضد الإنسانية.

يناقش بشارة في هذا الكتاب، كما يقول، حدثًا لمّا يزل كاتبه وقراؤه يعيشونه، ويبحث في موضوع كبير وممتد لمّا تُعرف خواتيمه بعد، ويصعب الإلمام بجميع مكوناته وآثاره. ويضيف قائلاً: "صحيح أن الكتابة عن بعض جوانب ظاهرة اجتماعية ما، من مسافة زمنية أبعد، تكون أيسرَ وأكثرَ إفهامًا للتفاصيل والوقائع، وأشدَّ أهميةً في التحليل الشامل، كما أنها مدعاةٌ لإلمامٍ أكبر بحقائق لا تُرى قبل انجلاء الغبار عنها، إلّا أن للقرب الزمني من الحدث ومعايشتِه فضائلَ أيضًا على الرغم من صعوبات الكتابة بأسلوب علمي مع استمرار الحرب". وجاء كل من الفصل الثاني والثالث والرابع، كاستكمال للفصل الأول في معالجة قضايا لم يتوسع في تناولها. وقد يتفق القارئ مع الكاتب في أن قراءة "الطوفان" في ظل الأحداثَ الجارية، تؤكد صحة تحليلات سلفه "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة "واستنتاجاته. ذلك أنّ الهدف من إخراج هذا السِّفر الصغير هو فهْمُ ما يجري، والحفاظ على ذاكرة الضحايا المظلومين.

تكمن أهمية كتاب عزمي بشارة، ليس فقط في موضوعه المتصل بأطول حرب عرفها الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته، وإنما أيضاً بخبرة مؤلفه وتاريخه الفكري والسياسي، وبالقضية الفلسطينية برمتها، التي تبدو اليوم مقبلة على تغيرات دراماتيكية في موقعها، إقليمياً ودولياً... 


(*) "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة"، وهو ترجمة باسم سرحان لكتاب Palestine Matters of Truth and Justice، إضافة إلى "الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة"، لعزمي بشارة، صادران عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها