الثلاثاء 2016/03/01

آخر تحديث: 18:17 (بيروت)

مقاهي بيروت..وأزمات المثقفين

الثلاثاء 2016/03/01
increase حجم الخط decrease


إذا كنت تريد أن ترى ملامح مدينة ما بعد غياب طويل عنها عليك أن تتفقد أحوال مثقفيها والقيام بزياراتهم مقهى مقهى ومجالستهم في مجالسهم و صالوناتهم وتجمعاتهم ومرافقتهم حتى في تسكعهم في شوارعها وحواريها وأزقتها .

بعد غياب لسنوات طويلة عن بيروت تكون العودة اليها بمثابة إعادة اكتشاف ما فاتك خلال سنوات غيابك . وتحتشد الأسئلة لديك: هل لا تزال بيروت تحمل ملامحها التي لا تزال في ذاكرتك وذهنك ووجدانك؟ وفي البحث عن الإجابة أول ما يتبادر إلى ذهنك هو : مقاهي بيروت التي تعج بمثقفيها من كتاب وشعراء وروائيين وفنانين تشكيليين وإعلاميين فهؤلاء يشكلون الوسط الذي غادرته وأخر صورة طبعت في مخيلتك عندما غادرتها ، وكذلك لأن هؤلاء يشكلون في اعتقادك الخطوط الظاهرة على جبين المدينة والتي تحدد ملامحها .

صحيح أن المسألة أكثر اتساعاً من أن تحدد كيف هي ظروف وأوضاع البلد المعقدة من خلال أوضاع مثقفيها ، ولكن لكي تجعل دائرة استقصائك ضيقة فلا بد من أن تتناول جانبا مهما يفترض أنه يوسع لك مدارك الأزمات الحاضرة ومن أبرزها أزمات المثقفين .

في النظرة العامة ، وفي العادة ، يعيش المثقف في أي بلد أزمة مواجهة مع السلطة التي تسلط ضوءها على النخب ، وهذا كان سمة الحقبة الماضية قبل حصول المتغيرات في العالم العربي وهو ما كان يدعو المثقفين الى تشكيل جبهات مواجهة باعتبار أنهم رأس الحربة في مواجهة السلطة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً بهدف تكريس دورهم الريادي .

بعد العودة من المنفى الاجباري الى بيروت تنخرط تلقائيا في حلقات " الردح " التي يشكلها المثقفون لتكتشف ان ملامح المدينة لم تعد كما هي وانها باتت متعددة الوجوه والملامح وأن وجهها الثقافي الذي حملته معك في حقائبك عندما غادرتها لم يعد كما هو ، وإنما ترى نفسك في ما يشبه السيرك الثقافي الذي يمارس فيه كل مثقف دوره الذي إما أعطاه لنفسه أو أُعطي له ولترى بالتالي أن المقاهي والأمسيات الأدبية والصالونات الثقافية هي مسارح هذا السيرك .

الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مر ويمر بها لبنان كان لا بد من أن تلقي بثقلها على المثقفين ، إلا أن الطامة الكبرى تكمن في الصدمة التي تشعر بها عندما ترى كيف أن الانقسام الطائفي والمذهبي والسياسي ينخر مجموعات كبيرة من المثقفين ليشكل العنوان الأساسي لأزمة المثقفين الراهنة والذي تندرج تحته عناوين فرعية عن الانقسامات الفكرية والثقافية التي تلازم عادة الجسم الثقافي .

ولعل الإرهاب الفكري الذي كان في الماضي حكراً على السلطة في مواجهة المثقفين أصبح المثقفون أنفسهم أدواته وبات الكثيرون منهم يمارسون هذا الإرهاب من منطلقات دينية أو مذهبية أو سياسية حتى أصبح هذا الأمر أحد فروع الانقسام العمودي والأفقي في الأزمة الكبرى التي يعانيها البلد .

في نظرة إلى خريطة التجمعات الثقافية والتي هي حصيلة الانخراط في الجو الثقافي العام تستخلص جغرافيا ثقافية تتوزع فيها مجموعات من الشعراء والروائيين والإعلاميين والتشكيليين في جلسات شبه يومية على الشكل التالي :

_ مجموعات يجمع بينها تقارب سياسي أو تدور في فلك المفهوم السياسي الواحد .

_ مجموعات من المثقفين المنتفعين الذين جذبهم مغناطيس المال نحو دوائر سياسية معينة حتى وإن كانت دوائر طائفية أو مذهبية لتكتشف أن بعض المثقفين اليساريين على سبيل المثال بدلوا جلودهم أو انهم انكفأوا نحو طوائفهم ومذاهبهم تحت إغراء المال .

_ مجموعات لا تزال تحمل الموروث الثقافي القديم ولم تتأثر بكل المتغيرات التي حصلت في العالم العربي .

_ مجموعات تماشت نسبياً مع الحداثة ولكنها لا تزال مكبلة بالواقع المفروض ولا تستطيع التفلت منه أو العمل على الانتقال التدريجي نحو الحداثة .

_ مجموعات لاتزال تقاوم هذا الفرز وتنأى بنفسها عن الانخراط في فوضى المهاترات وتحاول الحفاظ على استقلاليتها وحماية نفسها من خطر السقوط في مزالق الطوائف والمذاهب والتعصب الحزبي أو السياسي .

ويظهر بوضوح الفرز المكشوف على المنابر الثقافية . فهناك أمسيات شعرية أو منتديات ثقافية مختلفة يكون المشاركون فيها من لون طائفي أو مذهبي أو حزبي معين طبقا لمنظمي هذه النشاطات إذ يقع اختيار المنظمين على من يناسبهم سياسيا او دينيا من المثقفين الذين باتوا أدوات جاهزة لاعتلاء المنابر التي تلائم هذه الجهة أو تلك ولا يجد أولئك المثقفون غضاضة في المشاركة .

ونتج عن هذا الفرز أيضاً إندلاع معارك طاحنة بين المثقفين ساحاتها المقاهي ولا يراعى فيها أي جانب أخلاقي أو أدبي حتى أنها انتقلت الى صفحات الصحف والمجلات التي يدير صفحاتها الثقافية مثقفون محسوبون على هذا الطرف أو ذاك . ونتج عن هذه المعارك ما يمكن أن يسمى بالشللية بحيث أن كل شلة تجمع لوناً معيناً من هؤلاء .

صحيح أن هناك فئات من المثقفين تساند 8 أو 14 آذار لكن الصحيح أيضاً هو أن فئة كبيرة من المثقفين باتت تتصارع خارج إطار هذين التجمعين تحت عناوين عديدة ومختلفة .

وإذا ما قدر لهذا البلد أن يخرج من بعض أزماته الصغرى منها أو الكبرى فإن مقاهي بيروت ومنتدياتها وأمسياتها ستظل حلبات للصراع بين المثقفين ..

قد يقول البعض أن النزاعات الثقافية وأزماتها هي ظاهرة صحية أو مقبولة ولا بد منها ، لكن تقول الحقيقة أيضاً أن الصراع عندما يكون ثقافياً بحتاً فهو أمر صحي أما أن يكون المثقفون أدوات للصراعات الدينية والمذهبية والحزبية فهنا تكمن الأزمة الكبرى للمثقفين وهو الامر الذي يساهم مع الأزمات الأخرى في إعادة المدينة الى العصور المظلمة .


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها