الأربعاء 2016/03/09

آخر تحديث: 08:37 (بيروت)

الدبلوماسية التونسية "العرجاء".. تخبط وارتباك

الأربعاء 2016/03/09
الدبلوماسية التونسية "العرجاء".. تخبط وارتباك
ما تحتاجه الدبلوماسية التونسية رؤية واضحة تعفيها من الحرج السياسي العربي والدولي (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

مرة جديدة تقع الدبلوماسية التونسية في فخ الإرتباك والتخبط الذي لازم الحكومات التونسية المتعاقبة في الجمهورية الثانية، ما بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني، أو ما يُطلق عليها التونسيون "ثورة 14 جانفي"، التي خلعت الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وأظهرت على مدى خمس سنوات أن السياسة الخارجية التونسية تقف على حبل رفيع يهددها دائماً بالسقوط، بفعل السير غير المتوازن عليه في القضايا الخارجية المهمة.

آخر مأزق وقعت فيه الدبلوماسية التونسية "العرجاء" كان في اجتماع وزراء الداخلية العرب في دورته الثالثة والثلاثين، التي عقدت في تونس مطلع الشهر الحالي، عندما وافقت تونس ممثلة بوزير داخليتها على قرار وزراء الداخلية العرب بالتأكيد على قرار وزراء دول مجلس التعاون الخليجي، اعتبار حزب الله اللبناني منظمة إرهابية.


هذا الموقف أدى إلى صدور مواقف سياسية وشعبية تونسية، بعضها يرفض، وبعضها الآخر ينتقد، ما دفع بالحكومة التونسية إلى تفسير وتبرير قرارها بمحاولة التخفيف من أهميته، أو إلزاميته، ثم بصدور موقف آخر عن الخارجية التونسية بسحب هذه الموافقة التي اعترض عليها رئيس الجمهورية، وحاول تبريرها وزير الخارجية، فيما اخذ وزير الداخلية يوضح ظروفها.


يعيد هذا الإرتباك في الدبلوماسية التونسية إلى الأذهان ما حصل مع وزير الخارجية التونسية السابق الطيب البكوش، عندما أعلن العام الماضي عن قرب إعادة العلاقات مع دمشق إلى طبيعتها، واتهام تركيا في الوقت نفسه بتسهيل دخول الإرهابيين إلى سوريا، ما أثار بلبلة سياسية في تونس، أجبرت الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي على نفي وجود نية لإعادة التمثيل الدبلوماسي مع دمشق، وإلى صدور تصريحات أخرى تشدد على عمق العلاقات مع تركيا. ومرة أخرى، أعلن الوزير التونسي أن تصريحاته أخرجت عن سياقها؛ ثم أعلنت تونس بعد ذلك تعيين قنصل عام في دمشق، ما عدّ أنه استئناف للعلاقات الدبلوماسية.


وقبل ذلك، كانت حكومة الترويكا بقيادة حركة "النهضة الإسلامية"، التي استلمت الحكم بعد الثورة، الجهة التي اتخذت قرار سحب السفير التونسي من دمشق. كما أن الحركة وقعت في هذا الإرباك أثناء حكمها عندما دعت وفداً من حزب الله إلى حضور مؤتمرها التاسع، في العام 2012، ثم إعلان رئيسها راشد الغنوشي الإعتذار علناً من الشعب السوري على هذه الدعوة. آنذاك، وجدت الحكومة التونسية نفسها أمام حيرة، ولم تعلن موقفاً رسمياً من دخول وفد الحزب إلى تونس.


وكانت تصريحات الغنوشي بعد مؤتمر وزراء الداخلية العرب الأخير، وهو الذي تشارك حركته في الحكومة، دلالة أخرى على غياب التنسيق داخل الحكومة التونسية، إذ قال إن حزب الله قاوم إسرائيل، وهو أخطأ في أماكن، وأصاب في أماكن أخرى، ما اعتبره البعض تأييداً للحزب، ما اضطر الغنوشي إلى إطلاق تصريح جديد ينفي فيه دعمه لحزب الله، ويدين وقوف الحزب مع الثورات المضادة ومع الطائفية في سوريا واليمن.


تسنى لي أن أزور تونس مرات عديدة في السنوات الأخيرة، قبل وبعد الثورة؛ خلال زياراتي تلك شهدَت تونس ما بعد الثورة تغيير سبعة وزراء خارجية، ما يشير إلى أن الدبلوماسية التونسية تعيش حالة ضياع وغياب رؤية واضحة لهذه الدبلوماسية. وكنت في كل مرة أسمع من بعض النخب التونسية وصفهم لسياسة بلادهم الخارجية بأنها ارتجالية عموماً، أو متناقضة في مواقفها من القضايا الخارجية الكبرى، ومن بينها مثلاً المواقف الثابتة مما يجري في سوريا، ومصر، والموقف من حزب الله، أو في ما خص الجارة ليبيا، التي قال وزير الخارجية السابق البكوش الوضع عنها أنها محكومة من حكومتين، ما أثار حفيظة الأوساط السياسية والدبلوماسية التونسية، والليبية على السواء، إذ رأت تلك الأوساط في تصريحات البكوش هفوة دبلوماسية، ما استدعى إعلاناً من الحكومة التونسية بأنها لا تعترف بوجود حكومتين في ليبيا.


ويشكو التونسيون من أن كل حكوماتهم التي شكلت بعد الثورة لم تستطع وضع استراتيجية سياسية ثابتة تجاه القضايا العربية والدولية، وهوما يؤشر على وجود اختلافات داخل مكونات هذه الحكومات، وكذلك غياب التنسيق والتفاهم بين رئاسة الجمهورية، وبعض مكونات الحكومة، ومن بينها وزارة الخارجية. ويكاد لا يخلو مؤتمر عربي، سواء عقد في تونس أو خارجها، من صدور أكثر من موقف تونسي في الوقت ذاته حول قضية واحدة.


ويتندر البعض عندما يتحدث عن المواقف السياسية التونسية في ما يتعلق بالسياسة الخارجية إبان حكم بن علي، عندما كان يلاحظ عموماً أن صوت تونس لم يكن مسموعاً في المؤتمرات العربية، لأنها أساساً كانت تنأى بنفسها عن إطلاق المواقف، حتى أن حضور بن علي للمؤتمرات كان دائماً أقرب إلى الشكلية منه إلى الفاعلية، لدرجة أنه في بعض الأحيان، كان الشارع العربي بالكاد يعرف اسم وزير خارجية تونس.


ما تحتاجه الدبلوماسية التونسية رؤية واضحة تعفيها من الحرج السياسي العربي والدولي، وإعادة تقييم تعيد إرساء قاعدة سياسية واضحة تنطلق منها سياستها الخارجية، بحيث تنسجم مع مصالح تونس السياسية وحتى الاقتصادية مع مجتمعها العربي أولاً، ثم مع العالم الخارجي عموماً، ما يريحها من حالة التخبط الدائمة التي وسمت دبلوماسيتها بسبب غياب استراتيجية تكون حصيلة تفاهم بين مكوناتها السياسية، وتوفّق بين رؤيتها السياسية للقضايا المهمة ومصالح شعبها، وتحمي المفاصل الأساسية في الجمهورية الثانية.


صحيح أن الكلام السياسي العلني أصبح متاحاً في الشارع التونسي بعد الثورة، وهو أحد أهم منجزاتها، لكن تونس لم تستطع بعد الخروج من دوامة التخبط، ليس على صعيد سياستها الخارجية وحسب، وإنما في كل الملفات الساخنة، ومن أهمها الاقتصاد، والأمن الداخلي، والاستقرار الاجتماعي، والدفاع، والتخطيط.


ما تحتاجه تونس هو أن تؤمّن ظهرها في الداخل، قبل أن تدير وجهها إلى الخارج، وأن تكون لها سياسة واضحة من كل قضايا الخارج. ما تحتاجه، بإلحاح، هو العمل وفق عنوانين رئيسيين: حماية الجمهورية الثانية في الداخل، وحماية مصالح شعبها في الخارج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها