وقد يلخص هذين الفعلين -الاستماع الجريح والطروب إلى خطب عبد الناصر، وتغيير الأهالي اسم قريتهم، جوابًا منهم على نفورهم وعداوتهم للصهيونية- وجهًا من وجوه الهزيمة العربية في حزيران 1967.
وإلى ذلك، ينطوي اختيار الأهالي اسم قريتهم الجديد على دلالتين: أن يطابق وزنه الإيقاعي واللفظي (السلطانية) وزن الاسم القديم المنبوذ أو المكروه (اليهودية)، فلا يقع الجديد وقعًا جديدًا وغريبًا عن القديم في أسماعهم، ما يسهّل عليهم حفظه وتذكّره ولفظه على نحو تلقائي. وإلى هذا الخيار اللفظي والشكلي والإيقاعي، هناك آخرُ: قَلْبُ ما ينطوي عليه الاسم القديم المنبوذ والمذموم والمهين معنويًا لديهم، إلى اعتزاز وفخار ينطوي عليهما اسم قريتهم الجديد: السلطانية، الذي يكيدُ لاسمها القديم كيدًا عظيمًا، ويحررهم من مهانته القومية أو الوطنية. وهم في هذا ينسجون على منوال التفاخر القومي العروبي واللفظي والخطابي الناصري، ما قبله وما بعده أيضًا: توهّم أن الكلام والخطابة والإنشاء اللفظي، هي عين الفعل، تمامه وتحقيقه، والأرجح أن الناصرية بلغت الذروة في ذلك التوهّم.
خيار فرديٌ بلا فخر ولا سلطان
أما حال الولد الضرير، الشاب والرجل، علي عباني، ابن "اليهودية" والسلطانية، فلم تكن تنطوي على ما يدعو إلى التفاخر والاعتزاز في بيروت، التي كان تجرّع فيها مرارة التشرّد والتسوّل، بعدما تخلى عنه أهله الفقراء في "اليهودية"، فنسوه ربما، ولم يتذكروه بالتأكيد، إلا عندما علموا أن جمعية مسيحية آوته في المدينة، وأخذت بيده، وتمكّنت من إلحاقه في زمن الحرب الأولى (1914- 1918) تلميذًا داخليًا بمدرسة المكفوفين الإنجيلية في حي زقاق البلاط البيروتي. ولربما ما كان ذلك ليثير حفيظتهم ونخوتهم، ويدفعهم إلى البحث عنه، لولا علمهم أنه تخلى عن دينه ومذهبه الشيعي، واعتنق الدين المسيحي في مدرسته للمكفوفين. وهم تمكّنوا، بممارستهم الضغط عليه وتخويفه، من إعادته إلى دينه ومذهبه القويمين والأصليين اللذين ورثهما عن أهله، ويجبّان أو يمحوان خياره الشخصي والفردي الذي ساقته إليه مستجدات حياته ومسالكها في المدينة، خارج دائرة الأهل والإرث والنسب والتقليد والأصول.
لكن تخلّي علي عباني عن الديانة المسيحية الإنجيلية، لم يحمله على قطع صلاته بجمعية المكفوفين المسيحية، التي شكّلت دائرة جديدة وأساسية من دوائر حياته الاجتماعية والشخصية، عمله وأهوائه وميوله، وأنقذته من التشرّد والتسوّل والعري في مدينة بيروت. لذا حافظ الضرير الشاب والرجل على صلته الاجتماعية الضرورية بتلك الجمعية، لأنها متنفس له ولأمثاله من المكفوفين. وواظب عباني على المشاركة في نشاطاتها في كنيسة قرب جامعة القديس يوسف في شارع مونو بالتباريس. ومن تلك النشاطات مشاركته في انتخابات رئاستها. وحفيدته تروي أن أعضاء الجمعية كانوا يختارون جدها رئيسًا لها لساعة أو اثنتين أثناء انتخاباتها، على اعتبار أنه المسلم الوحيد بينهم، ليعود بعد تلك الساعتين إلى "كونه الشيخ علي عباني"، أي الشيعي وابن بيئته الشيعية. وملاحظة الحفيدة هذه توحي بأن الرجل كان يعيش تعارضًا أو قطيعة بين حاله في بيئته العائلية والأهلية التي ضغطت عليه واستعادته إليها، وبين نشاطه في الجمعية المسيحية واستمراره في الانتساب إليها. وقد توحي عبارة الحفيدة أيضًا بأن دور جدها في الجمعية كان شكليًا وفولكلوريًا، وأن أعضاءها المسيحيين كانوا يحملون حضوره وعضويته فيها على شيء من الخفةِ المشوبة بالاستهانة به وتعاليهم عليه في ميزان القوة والعلاقات الطبقية- الطائفية السائد في لبنان.
قد يكون هذا كله ينطوي على شيء من الواقع على صعيد الأحكام الاجتماعية العامة السائدة، لكنه ليس كذلك على المستوى الشخصي والفردي والأخلاقي الذي دفع علي عباني إلى حفاظه على صلته بالجمعية: حاجته الملحة إليها، اجتماعيًا ونفسيًا وجماليًا، وإلا لكان استغنى عن صلته بها. ثم متى كان البشر يعيشون أدوار حياتهم الشخصية والعامة على نحوٍ يخلو من الازدواج والتعدّد والتفاوت والتعارض بين هذا الدور وذاك وذلك، والتي تتحول الحياة من دونها جحيمًا خالصًا، أو فردوسًا خالصة؟ أليس النظام التوتاليتاري السياسي والاجتماعي وحده يفترض أنه يمحو هذا كله، ويجعل البشر أرقامًا تسعى بلا كينونة ولا فرق ولا تمييز ولا تفاوت؟
فالجمعية المسيحية التي أوت الولد الضرير، كانت تعلم أنه شيعي، وأوته بصفته هذه. وهو بدوره استجاب إليها خلاصًا من تشرّده في المدينة، واستحسن أو اختار أن يتحول مسيحيًا. وحين ترك دينه الجديد هذا وعاد إلى دين أهله، لا هو قطع صلته بها ولا هي فعلت ذلك، بل استمرت تدعوه إلى نشاطاتها بصفته شيعيًا. ولا يبدو أنه كان مرغمًا على استجابته دعوتها، بل كان يريدها ويرغبها ويطمئن إليها، بناءً على نازع شخصي وفردي واجتماعي أيضًا. لكن الأدبيات التي تحصر علاقات البشر والجماعات والمجتمعات والحضارات في مقولة ميزان القوى الاجتماعي والسياسي، غير المفضي إلا إلى الحرب، لا ترى في عمل البعثات التبشيرية المسيحية والتعليمية الغربية في الشرق سوى نازع وحيد أوحد: السيطرة والاستعمار والنهب والغزو. وهنا يحضر التساؤل: على ماذا سيطرت وماذا نهبت الجمعية المسيحية والمدرسة الإنجيلية، عندما أوت الضرير علي عباني وأمثاله، فعلّمتهم ودرّبتهم على مهن كثيرة تناسبهم؟
أمثلة من جيل آخر
أذكر من أيام فتوّتنا، نحن الجنوبيين المسلمين في الشياح، أننا كنا في عقد الستينات والنصف الأول من السبعينات، نقصد في العطل المدرسية الصيفية مكاتب جمعيات الشبان والشابات المسيحيات في شارع بدارو والتباريس، باحثين عن أعمال تدبّرها لنا تلك الجمعيات في مكاتب مهندسين ومحامين (أوفس بوي، أو صبي مكتب) وفي محالٍ ومؤسسات تجارية وإدارية خاصة. وكنا جميعًا مسلمين من "أهل الضعف" الاجتماعي حسب مقولة ميزان القوى، ونحظى غالبًا بما نريد، ونحصّل مبالغ مالية لقاء عملنا، ونعيش تجارب واختيارات اجتماعية وشخصية وعاطفية لا تخلو من شعورنا من أننا "أهل ضعف"، لكن من دون أن نشعر أن من نعمَلُ لديهم يعاملوننا على هذا الأساس وحده.
وأذكر أن فتىً من أولئك الفتيان استبدل اسمه المسلم بآخر مسيحي، لما ذهب إلى مكتب إحدى الجمعيات لتدبّر له عملًا في عطلة صيفية، فأمضاها يعمل في مكتب شركة هندسة بناء في شارع بدارو. وإلى جانب الاسم المسيحي الذي حمله في المكتب، وقع في هوى مراهق بسكرتيرة المكتب.
مقولة ميزان القوى الطبقي والاجتماعي والطائفي، تحمل مثل هذه الوقائع والحالات على القهر والاستغلال والتمييز والمهانة والاستضعاف والذل والاستكبار فقط. لذا تستوجب أو تستتبع ثأرًا طبقيًا- طائفيًا فحسب.. وهذا ما باشرناه في حروبنا الأهلية المديدة المدمّرة.
(يتبع)
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها