وكتبت في مطلع هذا الفصل أن والدها لم يكن "يشعر يومًا بالاختلاف"، أي بما يمكن تسميته وصمة اجتماعية، "لأن والديه ضريران". وتُعلّل الحفيدة عدم شعور والدها بتلك الوصمة "بقوة شخصية جدي (وحسن) تدبير جدتي". لكن على الرغم من ذلك، كان أشد ما "يزعج" ابن الضريرين، هو "كلام الناس حين يقولون: انظروا إلى هذا الولد الشاطر، رغم أن والديه ضريران! ثم يتساءلون إن كان (حقًا) يبصرُ، أم أنه لا يبصر؟". وقد يكون استعمال الراوية كلمة ضريرين من أثر نقلها من العاميّة المحكية إلى الفصحى، لغةَ استغراب الناس حال والدها، أو "تنمّرهم" عليه بلغة اليوم المعاصرة. فالأغلب أن المستغربين كانوا يستعملون كلمة عميان الدارجة في المحكية هذا السياق. أما تعجّبهم من شطارة ابن الضريرين، وتساؤلهم عما إذا كان مبصرًا، فينطويان على اعتبارهم فقد البصر مرضًا معديًا ينتقلُ من الأهل إلى أبنائهم. بل إن التعجّب والتساؤل يتضمنان فوق ذلك مسألة أعمق في الثقافة الأهلية أو الشعبية السائدة آنذاك، ولا تزال أصداؤها حاضرة حتى اليوم: غالبًا ما يثير ذوو "العاهات" أو "التشوّهات الخلقية"، أو المعوّقون وذوو الاحتياجات الخاصة في لغة اليوم المعاصرة، نفورًا أو خوفًا جسمانيّين شبه غريزيّين لدى "الأصحاء" الذين يتداركونهما أو يلجمونهما أحيانًا، فيقلبانهما شفقة عليهم في أحسن الحالات. لكن الموقف من المعوَّقين، ما كان ليبرأ قط من الرغبة في إفرادهم وعزلهم، ومعاملتهم معاملةً تمييزية تنطوي على مزيج من خوف ونفور، وتحقير أحيانًا.
فحتى عشيات حروبنا الأهلية (1975- 1990) ظلت تُدوَّن إلى جانب مقعد منفرد أو اثنين في كل من حافلات النقل العام المشترك في بيروت، عبارة "الأفضلية لذوي العاهات". وغالبًا ما كانت تظل تلك المقاعد خالية، فلا يتجرأ كثيرون، بل ينفرون من الجلوس عليها، إلا في أوقات ذروة ازدحام ركاب الأتوبيسات، التي كان يسمى الواحد منها "جحش الدولة"، تحقيرًا له وللدولة في بعض الأوساط والدوائر الاجتماعية آنذاك، وغالبًا بين طلاب الضواحي الذين كانوا في أمسّ الحاجة إلى التنقل في أتوبيسات النقل العام التي كانت جديدة ونظيفة، ومن علامات حداثة بيروت، واستجابة مؤسسات الدولة لحاجات التمدين، وحرصها بعدُ على تأمين خدمات عامة معقولة في نهاية الستينات.
والراوية ديانا عباني في ردها عدم شعور والدها باختلافه أو بالوصمة العائلية، إلى قوة شخصية جدها وتدبير جدتها الضريرين، تنسج على منوال أهليّ نسبي. وكأنها تقول إن "هذا الولد الشاطر"، أي والدها، شاطرٌ لأنه ابن ابيه "القوي الشخصية"، والذي ورث عنه ولدُهُ الشطارة، كما ورث عن أمه حسن التدبير. أما هو الابن، فلم يأتِ بشيء من عنده، وليس شخصًا فردًا يحصّلُ خبراتٍ وتجارب خاصة ومستقلة تؤهله ذاتيًا ليكون شاطرًا وحسنَ التدبير.
المدينة سجنٌ أم حرية؟
وتسكتُ الراوية عن رد تميّز شخصية جدها الضرير إلى حياته في المدينة (بيروت)، وابتعاده من ثقافة أهله ونسبهم، بعدما أخرجوه من ديارهم لأنه ضريرٌ ولأنهم فقراء، فتركوه يتشرّدُ في بيروت متسوّلًا. وهي تسكت كذلك عن أثر المدرسة الإنجيلية للمكفوفين وما زوّدت به جدها من معارف وخبرات وأهواء وميول، في تميّز شخصيته، فرديتها وفرادتها. وبدلًا من هذا كله تكتفي الحفيدة بما يذكره والدها عن أبيه: "يُكِنُّ له احترامًا كبيرًا، ويقدّره رغم أن كثرة من مجايليه كانوا يبيعون الخبز. فأهل السلطانية (قرية الجد) كانوا معروفين ببيع الخبز في بيروت. لكن والدي- تكتب الحفيدة- لم يعمل في بيع الخبز، لأن والدَهُ أصرَّ على تعليمه في مدرسة خاصة". وهي تنقل عن والدها قوله أيضًا إن والدَهُ من "جيل تعتير"، أي جيل البؤس والعثرات.
على الرغم من ذكرها هذا كله، لم تنتبه الحفيدة الراوية إلى العامل الأول والأساس في تميّز شخصية جدها وسلوكه: تأثير المدرسة الإنجيلية في تنشئته على مثال فردي عملي مكّنه من الاعتماد على ذاته، ومن إتقانه مهنةً يعتاش منها، ومن التعويل على التعلّم والتعليم. وقد زوده هذا المثال بنظرة جديدة إلى الذات والنفس والحياة، مفارقة للمثال الأهلي والنسبي التقليدي المتوارث، ذاك الذي يأسر الأبناء في ما يشبه سجنٍ اجتماعي، تمنعهم قيوده من مغادرته، لمباشرة حياتهم أفرادًا مستقلين، ويستقبلون الحاضر المتجدّد والآتي. فالضرير عباني شاءت أقداره أن يخرج على تقاليد أهله المتوارثة، ويحظى بتربيةٍ ورعايةٍ مدارهما الاختبار العملي الشخصي التجريبي، الذي أتاح له الاعتماد على ذاته. وهذا ما كان يصعب عليه تحصيله في ديار أهله الذين حملهم فقرهم وضيق عيشهم وانعدام مواردهم وفقد ابنهم بصره، على تخليهم عنه سنواتٍ كثيرة، من دون تذكّرهم إياه، إلا بعد علمهم أن المدينة والمدرسة التي آوته، حملتاه على التخلي عن مذهبهم الديني وعلى اعتناقه المذهب الإنجيلي.
جيل التعليم والنشاط اليساري
لكن الحفيدة والراوية تستبدل هذا كله بقولها على مثال إنشائي رائج: "المدينة قستْ على جدي وسجنته"، رغم أنها تروي تفصيليًا كيف غيّرت المدينة والمدرسة الإنجيلية أحواله، وجعلتاه حريصًا على تعليم أولاده: ابنتاه حتى نيلهما شهادة السرتفيكا في نهاية الخمسينات. ثم ابنه الأصغر، والد الراوية، الذي بدأ تعليمه في "مدرسة الشيخ علي حوماني" الأهلية المجانية الناشئة في حي اللجا الشيعي البيروتي، ربما. وهي واحدة من المدارس التي أوكلت إليها الحكومة اللبنانية تعليم أبناء المهاجرين الشيعة، لقاء تلقيها مساعدات مالية من وزارة التربية، لتعويض غياب المدارس الرسمية عن الأحياء الشعبية، الشيعية وغير الشيعية، في الأربعينات والخمسينات والستينات.
وكانت مدرسة الشيخ الحوماني تلك "سيئة" حسب الحفيدة، و"يُطلب" من تلاميذها أن يدفع كل منهم "فرنكًا" يوميًا سنة 1957"، عندما كان والد الراوية يتعلم فيها، قبل انتقاله إلى "مدرسة رسمية جديدة، فتحت أبوابها في المصيطبة، اسمها مدرسة الغول". وفي هذه المدرسة حاز شهادة السرتفيكا بعد "ثورة" 1958 الأهلية الدامية. ونشرت ديانا عباني صورة لوالدها طفلًا في حي اللجا أثناء تلك "الثورة". ويظهر في الصورة ولدان، في أقدامهما مشايات بلاستيكية، وربما قباقيب خشبية. أحد الولدين يعلّق بكتفه وتتدلى على ظهره بندقيةً يبدو أنها حقيقية ومن بنادق "الثوار"، فيما هو يفتش ولدًا آخر يرفع يديه على نحوٍ مسرحي هزلي يقلّدُ مشهدًا من مشاهد تلك "الثورة" في حي اللجا والأحياء الإسلامية المتاخمة له.
وبعد سنة 1958، انتقل والد الراوية إلى مدرسة رمل الظريف الرسمية الناشئة حديثًا، "لكنها كانت سيئة جدًا: لا كراسي ولا طاولات ولا طبشور فيها. وكل تلميذ يحضر كرسيّه معه من بيته. ولم يتعلم والدي شيئًا في تلك السنة الدراسية. وأمضى أوقاته يلعب خارج المدرسة"، تكتب ابنته، ثم تضيف أن جدّها وسّط قريبًا له يعمل عند آل بيضون، كي يسجّل ابنه في المدرسة الخاصة التي أسسوها في بيروت: الكلية العاملية (نسبة إلى جبل عامل)، وهي "أول مدرسة خاصة حديثة هدفها تعليم أبناء الشيعة المقيمين في بيروت". وفي العام 1960 صار والد الراوية تلميذًا في العاملية، "فتحول تلميذًا مجتهدًا، وبدأ فيها وعيه السياسي اليساري". وفي العام 1967 فاز في امتحانات الدخول إلى كلية التربية في الجامعة اللبنانية- قسم الرياضيات.
وتكتب الراوية أن والدها "يتكلم بحنين إلى العصر الذهبي لتلك الكلية التي خرّجت في السنوات العشر الأولى بعد تأسيسها، أهم مدرّسي التعليم الرسمي الثانوي في لبنان. وقد تقاعد معظمهم اليوم أو ماتوا".
والحق أن سيرة هذا الجيل، جيل والد الراوية، يحتاج إلى معالجةٍ متشعبةٍ لاقتفاء أثره في التعليم والمدنية والانتماءات السياسية العروبية واليسارية، للوقوف على مصائره حتى عشايا الحروب الأهلية (1975) وفي خضمها. أما ما كتبته ديانا عباني عن والدها وجيله ونشاطه السياسي اليساري، فيقتصر على بعض عناوين غائمة، شأن ما كتبته عن جيلها، أي الثالث في بيروت بعد جيل جدّها الضرير، الذي اقتفت أثره اقتفاءً تفصيليًا لافتًا، يصلح لأن يشكل مادة غنية لرواية عن مصير نموذج من المهاجرين الشيعة إلى بيروت في مطالع القرن العشرين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها