"القادة الصامتون" كعنوان بحد ذاته، فيه ما يدعو للتهكم. أن تختزل ما اكتنفته الثورة منذ 17 تشرين بقادة، تم تصنيفهم بصامتين، ليتضح أن ماري جو رعيدي في كتابها تتحدث عن مجموعة من الفنانين وهم - كما يتم التسويق لهذه المادة المطبوعة - أصبحوا من حيث لا أحد يدري قادة للثورة ولكن.. صامتين!
في موقع "لبتيفيتي" حيث يتم الإعلان عن الحدث، ارتأت ماري جو أن تدعونا إلى حفل توقيع "كتاب الثورة الفني" (Lebanese revolution art book)، الذي حمل العنوان الشيق أعلاه والذي ضمّ أعمالاً لمئتي فنان، بينما تمّ اختيار بيت بيروت مكاناً لهذا الإحتفاء، من دون أن يتم بالضرورة دعوة الفنانين أنفسهم الذين تم اختيار أعمالهم لكتاب الثورة.. الفني.
"تمثيل جميل جداً"
هكذا اكتمل توصيف عناصر الجريمة: عنوانٌ مهين ومخزي، فاعلة خير كل هدفها في الحياة أن تعطي للثورة معنى مختلفاً ووجدت أن الكلمات هي شكل فني، تأريخ (؟) للثورة منذ 17 تشرين الأولى وصولاً إلى 22 تشرين الثاني، توقيع في بيت بيروت بينما المرتكز الأساسي للثورة يعود إلى لا مركزيتها، والإبتعاد الكلي عن صورة بيروت كحاضنة للوطن وهكذا.. مهلاً. هذه المادة المطبوعة الفنية الفخمة، يتم بيعها بـ120 دولاراً، وهناك خصم منذ لحظة التوقيع الأولى بحيث تصبح قيمة الكتاب 66 دولاراً!
في مقابلتها على تلفزيون "الجديد" (رابط المقابلة)، تقول ماري جو إنها اختارت عنوان الكتاب "القادة الصامتون" لأنها كانت تنزل كل يوم إلى الشوارع. وكانت تكتب كل يوم عن الثورة. وكانت "تنظر إلى هؤلاء الناس كيف كانوا يمثلون لبنان بشكل جميل جداً". إذاً القضية هي قضية تمثيل - إطار شكلي تمثيلي.. كتمثيل إحدى الفتيات الجميلات للبنان في مسابقة جمال العالم، أو كتمثيل لبنان في جائزة الأوسكار.. لم تنتبه ماري جو، التي حسب قولها كانت تنزل كل يوم إلى الثورة، أن ما تشهده كان فعلاً جذرياً تغييرياً وليس أداة تمثيلية أخرى للبنان.. لا أقصد فعلاً الإساءة إلى كلمات هذه السيدة، وإلى ما تقصده في بوحها هذا. وعلى الأرجح، أنها أساءت التعبير. ولكن هذا النوع من العبارات المقرون بأسماء رنانة كنادين لبكي، ووليد مزنر، وروجيه مكرزل، مع تحويل الكتاب لعداد لأيام الثورة من دون أن يتم في المقابلة ذكر أي سردية من سرديات الثورة، ومن دون أن يُأتى على ذكر حكايا هؤلاء الناس الذين افترشوا الشوارع، والذين جابهوا السلطة كما لو أن تلك الأسماء المذكورة أعلاه كافية لتمثيل شهر وبضعة أيام من الثورة، يحوّل هذا التأريخ الذي ادعت القيام به ماري جو إلى مادة تسويقية. وهنا أصل المشكلة، قبل أن يتمّ الحديث عن سعر الكتاب وبيعه ولمن يعود ريعه.
مادة دعائية
لا أعلم إن كان لماري جو – أو أي كائن آخر – القدرة للحديث عن القادة الصامتين للثورة، ذلك لأن هؤلاء يشكلون إذا ما اجتمعوا أكثر من مليوني مواطنة ومواطن احتلوا كل الشوارع. ولا أعلم إن كانت صفحات كتابها كافية لهذا النوع من التأريخ، أم أنها اكتفت بذكر أسماء الفنانين الذين جعلوا من الثورة مادةً لإشتغالهم الفني.. في كل الأحوال، يبدو عنوان القادة الصامتين مخزياً، في ظل خطاب صاحبة الكتاب التي لم تر من الثورة إلا "صورة تمثيلية" أخرى جعلت عدداً من الفنانين مادة دعائية لعملها: يعني دعاية أخرى فوق دعاية الثورة. ولا أظن أن الفنانين – أو معظم من ظهرت أعمالهم في الكتاب- يرتضون لأنفسهم هكذا موقع، أن يكونوا "القادة الصامتين"، بينما تتسلق ماري جو هذا التموقع جاعلة نفسها آلهة الـExposure، مفترضة أن كل الفنانين سيحتاجون لإله من هذا النوع.
هذا ولم تقم صاحبة الكتاب بدعوة عدد ممن صدرت أعمالهم في صفحات كتابها، ولم تعلمهم أن الكتاب سيتمّ بيعه. ولم يعلم أحد بعد لأي جمعية أو مؤسسة من المجتمع المدني سيعود ريع الكتاب. ليست المشكلة في كلفة الكتاب. فأي كتاب فني بهذا الحجم قد تكون كلفة بيعه قريبة لهذا الرقم. ولكن أن يصدر كتاب عن ثورة ما زالت في مخاضها، قامت ضد منظومة سياسية اقتصادية جوّعت الناس، وأن لا تقوم ابنة صاحب أكبر مطبعة في لبنان وهي مطبعة رعيدي بالتنازل أقلّه عن تكلفة الكتاب، وأن تفضل بيعه على أن توزعه مجاناً لهؤلاء القادة الصامتين، كائناً من كانوا، وأن لا تقوم في الوقت نفسه بتأمين أطر تضمن شفافية ريع العمل، وأن تتجنب حساسيات عملية البيع بغية الريع.. كل هذه الأمور تحيل فعلة ماري جو من عمل فيه حسن نية إلى تجارة!
ثورة.. "مش تجرة"
في وقت متزامن ليوم إطلاق كتاب "القادة الصامتون"، تم تداول على أحد مواقع البيع الإلكتروني صورة لحذاء كتب عليه كلمة ثورة. هذا الحذاء الرياضي، الذي صممته المصممة رانيا تويني جبارة، يتمّ بيعه بمئة وسبعين دولاراً. يذكر حذاء الثورة بفستان اللاجئ حين قامت شركة تصميم ملابس في بروكلين بتسمية أحد فساتيتها بفستان اللاجئ، ما أثار موجة غضب عارمة. بالنسبة لجبارة وأمثالها، قد يكون الموضوع بسيطاً جداً: عليها أن تتحرك من موقعها كمصممة لتتماهى مع الثورة، لتكون جزءاً منها.. عليها إذاً أن تنتج مادة إبداعية جديدة وأن تسلّعها.. المصوّر يقوم بالتصوير في الثورة، الصحافي يكتب، رانيا تصمم حذاء، وماري جو تطبع كتاب.
ينسى أمثال ماري جو ورانيا أن الأمر ليس فقط حكاية تموقع وتمثيل: ليس السؤال كيف أثبت موقعي وأوظف الثورة. وليس ما يجري في الشارع هو تمثيلٌ آخر أو صورة أخرى يسهل طباعتها في كتاب أو تحويلها إلى عمل ابداعي أو إلى سلعة. هنالك جانب أخلاقي كبير يفرض بعض التأني قبل الخروج بأي نتاج إبداعي حول الثورة. ما هي مسؤوليتي كفنان/مصمّم أمام هؤلاء الذين يقودون فعلاً الثورة؟ لربما تكون مسؤوليتي أن أنسى أنني فنان أصلاً، وأن أسترد موقعي أولاً كمواطن!
أي عمل فني اليوم يرتب مسؤولية أخلاقية تحيل إلى شرعية التمثيل: من يمتلك شرعية تمثيل لحظة من لحظات الثورة؟ الشاب الذي يحرق دولاباً داخل الصورة أم الفنان/المصور الذي أخذها/نقلها في عمله الفني، أم من قام بكتاب حول الفنان، الصورة ومن في داخلها؟ أسئلة التمثيل تبدو أيضاً ثانوية أمام غياب أي سرديات قدمتها ماري جو للثورة، أو قد يقدمها حذاء كتب عليه كلمة ثورة ويتمّ بيعه بـ170 دولاراً، في حين تفيض مواقع التواصل الاجتماعي بحكايا أناس احتلوا الشوارع لمدة شهور وهم يعيشون اليوم تبعات هذه الثورة..
ما تمّ عبر هذين النموذجين الذين توليا تسليع الثورة، هو عملية تدجين إضافية ومحاولة احتواء للثورة كمنتج داخل منظومة الفساد والإستغلال ذاتها: كيف نحوّل غضب الناس المستمر والذي لم يتوقف في أي لحظة إلى سلعة مكتملة يتم بيعها مقابل بدل مادي؟ كيف تشرح للطفل الذي أكل نصيبه من خراطيم المياه، والذي قد لا يجد ما يأكله غداً، أن ثورته المستمرة تحولت لدى بعض المبدعين إلى حذاء يتم بيعه بـ170 دولاراً؟ هل سيجنب هذا الحذاء الثورجي أطفال المدارس الرسمية في البقاع أن يغمى عليهم في الملاعب بسبب سوء التغذية؟
هكذا تتحول الثورة إلى كارت بوستال أو إلى هدية فالنتاين لطيفة.. Happy Valentine.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها