- شكل عرض "حكي نسوان" للينا خوري، وهو مستوحى من تجربة Eve Ensler والـVagina Monologues أول حضور مسرحي لك، له وقعه في مسيرتك الفنية، كيف تصفين التجربة وكيف أثّرت في مسارك المهني؟
قبل "حكي نسوان"، قمت بأعمال مسرحية عديدة، ومنها مسرحية "سيدة حرة مستقلة" المقتبسة عن ليزيستراتا (أريستوفان)، لكن يمكنك القول إن مسرحية لينا خوري أطلقتني… كنت قد أتيت ممثلة بديلة لريتا إبراهيم، صديقتي، التي قررت بعد حرب تموز أن تترك لبنان الى قطر. حينها طلبت مني أن أقوم بتجربة أداء، وبعد أسبوعين كنت على الخشبة. هذه التجربة كانت مهمة لي، خصوصاً لفتاة قادمة من الجنوب، ولدي الكثير من التحفظات، كيف سأقول ما أحب أن أقوله كممثلة حول الvagina monologues وأذكر أني طوال الوقت، كنت أفكر بوالدي - ذاك الرجل الشيوعي الملتزم سياسياً، الذي تمّت محاولة اغتياله أربع مرات، وكان يعلمنا دائماً أن نكون كنساء، مسؤولات، مثقفات فطنات وخلوقات. كان الأمر تحدياً كبيراً بالنسبة إلي، وعلى رأي يحيى، كنتُ دائماً أؤجل لكني أعرف أن هذه أحدى ملذاتي: أن أقف على المسرح، وأول نقطة وصول لهذا الشغف كانت عبر مسرحية "حكي نسوان".
- بعد العمل مع لينا خوري، انتقلت الى التلفزيون وبرنامج "ما في متلو"، وبقيت لمدة طويلة قبل العودة مجدداً الى المسرح. لماذا الإنتقال الى التلفزيون أولاً ولمَ كان كل هذا البعد من المسرح؟
بعد "حكي نسوان"، اُنتج برنامج تلفزيوني اسمه "الليلة ليلتك"، مستوحى من العرض وهنا حصلت على عروض تمثيل أدوار كوميدية. حينها لم أكن أعتبر نفسي كممثلة- قادرة على إضحاك الناس على التلفزيون خصوصاً أننا في الفرع الأول في الروشة لقسم التمثيل- كما تعرفين – لا نركز في أكثرية أعمالنا، الا على المسرح العبثي والتجريبي. كانت لدي عقيدتي وقضيتي وشيوعيتي التي تربيت عليها، وكل ممارستي في التمثيل، كان يجب أن تترجم لتخدم هذه القناعات... عندما حدثني المخرج ناصر فقيه عن برنامج "ما في متلو" رفضتُ، وكان رفضي نابعاً عن الخوف: "ما كنت متوقعة اني إقدر لبّيهن… كانوا كتير شاطرين، بالإضافة الى خوفي من وصمة الكوميديا. بعد محاولات لإقناعي- قلت لنفسي سأجرب. وتعلمت كثيراً من هذه التجربة، كيف أنهي مشهداً كوميدياً وكيف أضع وقعاً للبداية، وفكرة الارتجال بحد ذاتها. في "ما في متلو"، لا نص مكتوباً، هنا اتفاق على مضمون المشهد أو الفكرة وثم نرتجل. لعب انضمامي الى "ما في متلو" دوراً في أن أؤجل أكثر فأكثر مشروع التمثيل على خشبة المسرح. بين التعليم وهذا البرنامج كنت أقول لنفسي: "بعدين.. لاحقة" ثم أنجبت طفلين… فبتّ بعيدة كل البعد من الخشبة. في هذه الفترة، حدثني يحيى مجدداً وكنت أؤجل طبعاً...
- كيف قررتِ العودة الى المسرح مجدداً والعمل مع يحيى جابر تحديداً؟
تربطني معرفة سابقة بيحى، كنا نلتقي إما في المسرح أو من خلال مناسبات مرتبطة بإلتزامنا السياسي المتشابه أو من خلال لقاءات عائلية، وبيننا رابط عائلي بعيد. دائماً كان يقول لي "يا بنت ما بدك تشتغلي مسرح"... أتهرّب من الموضوع بسبب ضيق الوقت الى أن حضرتُ مسرحية "بيروت طريق الجديدة" واستفزني العرض. تحمست للعمل، لكنني كنت أسأل نفسي: من أين سأجد الوقت، مع المدرسة في الصباح والأطفال وما في متلو بعد الظهر. ثم قدّم "بيروت فوق الشجرة"، ثم جلستُ ويحيى. وبقينا نلتقي على مدى شهرين، أحكي طوال الوقت. لم أفهم في البداية: لماذا أنا أحكي وهو يستمع فقط… هل أتيت لآخذ نص العرض. بعدما تحدثنا لمدة شهرين، أتى حاملاً نصاً عبارة عن أربعة دفاتر... وقال لي: هذا هو نص المسرحية. اتضح أنه كتب المسرحية منذ فترة، وكان يبحث عن ممثلة… قلت له "شو كنا عم نعمل قبل"؟ قال لي كنت عم بعملك كاستينغ... وبدأنا.
- وكان أول عمل "اسمي جوليا"...
استغرق العمل على جوليا مدة طويلة. بقينا 10 شهور نعمل عليها وندور حولها ونعيد كتابتها، ويحيى يحب الغوص في تفاصيل التفاصيل، والجميل في العمل معه أنه يطوّع النص لصالح الممثل ليسلطنه ويتفنن به… هناك بعض المقاطع كانت تحذف لأنني لم أكن مقتنعة بها، لهذه الدرجة كان يحيى طيّعاً مع الممثل، وعندما يكشف نقطة التلاقي التي يبحث عنها، بين بناء الشخصية والنص، يكون أكثر كرماً في عطائه ككاتب.
- هل تذكرين ساعات التحضير للعمل الأول؟
"ما تعتلي هم، مستحيل تطلعي عالمسرح إذا انتِ منّك جاهزة، انتِ رح تعرفي أيمتى، وأنا رح قلك أيمتى". هكذا كان يقول يحيى. لم أكن في البداية أتوقع أن التجربة ستستمر. قلت لنفسي سأحاول. تمرنّا في بيت يحيى على "اسمي جوليا"، التي تنقل تجربة امرأة أصيبت بالسرطان، ووالدتي توفيت بالسرطان أيضاً العام 2011: لم أكن قد انتهيت من حدادي نفسياً. وبكيت كثيراً في التمارين. الكنبة في منزل يحيى شاهدة على ذلك. "اسمي جوليا" سمحت لي أن أواجه واقع وفاة الأم وأن أمارس حدادي. أفادني يحيى كثيراً كصديق وساعدني أن أتعامل مع الغضب الذي في داخلي بعد خسارة والدتي.
- عندما يكون الممثل جزءاً أساسياً من عملية كتابة العمل المسرحي، هناك الكثير من الأخذ والرد والتفاعل بينك كممثلة وبين يحيى الكاتب والمخرج، وهي عملية بطبيعة الحال، تحتاج لكثير من الوقت: كيف تصفين هذه المحاورة والمجاورة في بناء العمل؟
هي لا شك، تستهلك الكثير من الوقت. المشكلة تكمن أنه في البداية أنتِ معتادة على منظومة معينة من العمل وهي تتمثل كالآتي: تأخذين نصاً جاهزاً من المخرج، تتدربين لشهرين، تعرضين لوقت قصير ثم ينتهي الأمر. مع يحيى التجربة نصفها محاط بسؤال "متى سنبدأ العمل على العرض". هو يكتب مَشاهد، ثم هو يتحدث وأنا أكتب، ثم أنا أحكي وهو يكتب. في الأشهر الثلاثة الأولى، نكون في حالة دوران حول الموضوع الذي يجب أن نتحدث عنه. أنا أنطلق من تجربتي وهو يحكي حكاياه، ثم يقول لي: هذه الحكاية قد يكون مكانها هنا، ثم تتكون المشاهدة شيئاً فشيئاً، فيبدأ التفتيش عن الخيط الجامع لهذه الحكايا والتجارب. في "اسمي جوليا" السرطان كان هذا الخيط، في "مجدرة حمرا" كان العنف. ثمّ تأتي مرحلة "تطويع" المشاهد وهي تستغرق ما يقارب الشهرين أو أكثر... أحياناً كنّا نضطر لوقف التمارين لشهرين بسبب تصوير مسلسل من المسلسلات. لم يكن يحيى يمانع، وكنا حين نعود كأننا نبدأ من البداية. وهكذا كنا على مراحل طويلة حتى تكوين هيكل المسرحية، فالتمارين...
- يشدّد يحيى في تجاربه المونودرامية الأخيرة على المسرح الهوياتي الذي ينطلق من انتماء ديني أو مناطقي، وأنتِ لعبتِ دور المرأة الجنوبية الشيعية في مسرحيتي "اسمي جوليا" و"مجدرة حمرا"... كيف أعدت تشكيل هويتك الجنوبية على الخشبة؟
حين أتيت من الجنوب الى بيروت، كانت لهجتي مطعمّة، أي جنوبية. كان من المفروض أن أكسرها وأن أحوّلها للهجة بيضاء في مسلسل مروان نجار على سبيل المثال، كذلك كان الأمر في ما يتعلق بمسلسلات أخرى. كنت مثلاً أقول "قرر" بالقاف، ألفظ الهاء في "شو فيها"، أقول "أبعرفش". لاشعورياً صرت، أحكي مثل مَن كان حولي… يحيى أعاد لي كل هذه الكلمات. صرت أنظر الى هذه الكلمات، الى لهجتي نظرة مختلفة. هذه أول مرة أفكر في الأمر... لا أستطيع القول إنها نظرة المصالحة - فشعوري بأن مرحلة الطفولة وأحلامها ومنها حلم الوصول الى بيروت، وفكرة أن الجنوب كان عائقاً لطموحاتي، لم يكن حقيقياً، إذ لم يعد الجنوب عائقاً. لكن مع يحيى اكتشفت أن كل شيء في حياتي، أستطيع أن أستثمره في شيء جميل. كل ما نمرّ به وكل ما يشكلنا يستطيع أن يكون "حكايا تُخبَّر"، ولكن عليك أن تعرفي كيف تنقلين القصة الى حكاية تُنقل الى الآخرين. يحيى جعلني أنظر الى لهجتي الجنوبية كميزة.
- قلت إن الدك كان شيوعياً وأنك تحملين مبادئ اليسار. هل أنت منظمة حزبياً؟ وكيف يؤثر هذا الإنتماء في عملك؟ وما هي المبادئ التي لا رجوع عنها؟
بعيداً من انتماء عائلتي، كنت منظمة حزبياً، أشارك في المؤتمرات الوطنية وفي الانتخابات، ولاحقاً انتسبت الى حركة "اليسار الديموقراطي"، وكنت عضواً في المكتب التنفيذي وناشطة حزبياً… أنا ابنة أبي… و"الصبي اللي ما إجا". طوال الوقت أحاول أن أظهر له أنني قادرة أن أحل مكان هذا الصبي… وبيتنا كان مكاناً للنقاشات وللاجتماعات الحزبية، وأثرت فينا كثيراً محاولات اغتياله أربع مرات، ثم أتى حدث اعتقاله، لذلك كان الدفاع عن حرية الرأي بالنسبة الي، معركة أساسية. هناك مبادئ أساسية تشربتها من والدي... أثر الأمر فيّ وفي علاقتي مع الآخر. كنت معنية ومسؤولة عما يحصل من حولنا، فطالما أنا معنية ومسؤولة عليّ أن أقوم بواجبي، لست من الأشخاص الذي يقضون وقتهم في التذمر. أحاول دائماً أن أبحث عن حلول… أثرّ فيّ هذا الانتماء وفي كل شيء: كيف أتعامل مع تلاميذي، كيف أنتقي أعمالي المسرحية...
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها