كانت الساعة السادسة والنصف صباحاً بتوقيت سياتل، عندما كتبت الممثلة والفنانة ندى حمصي، عن رحيل الممثل والمخرج مجدي أبو مطر في فايسبوك. لم يمض أكثر من دقيقة على تدوينتها للبوست. "Majdi we loved you"، قالت. أقفلت هاتفي وفتحته مجدداً... لم أرد تصديق ما كان جلياً. كان مطمئناً لي في اللحظة الأولى أن بعض الأصدقاء وضعوا تعليقات ترحيبية بالصورة (بمعنى كونا بخير.. الخ) ثم بعد ثوان قرأت تعديل ندى لمنشورها: "أحبك حياً وأحبك ميتاً". صُعقت. لم أعرف ماذا أكتب... لم أرد أن أزف خبر الرحيل لأي صديق مشترك في لبنان أو أي بلد آخر، كما لو أن عدم رغبتي هذه كفيلة بردّ خسارة الفقد.
يا لبطء هذا الرأس... وسذاجته.
لم أعرفك كما ينبغي يا مجدي.
صورتان لك انطبعتا في الرأس. الفارق بين الأولي والثانية أكثر من ثلاثين عاماً. طبعاً بينهما، تسنى لي حضور مسرحية قدمتها في "مسرح بيروت". لا أعلم إن كان "الآنسة جولي" أو "شي متل ماكبث"... كل ما أذكره هو عبقرية السينوغرافيا التي اعتمدتها من لا شيء... الخشبة أصبحت حاضنة أنابيب، تتحولّ في لحظة ما الى شرايين تضخ دماء. كنت طالبة آنذاك ولم تكن قراءاتي متسعة في المسرح. كل ما كنت أسعى اليه على الخشبة هو الدهشة والكثافة من دون أي فائض من التحليل. تلك كانت طبعتك المسرحية الأولى في ذاكرتي.
الصورة الأولى:
التقيت بك للمرة الأولى العام 1997، أقدّر أننا كنا في شهر أيلول. كانت أيامي الأولى كطالبة مسرح في الجامعة اللبنانية في الفرع الأول- الروشة. وكان التلصص على القاعة الأولى تحت الأرض محبباً، إذ كان الباب إما مفتوحاً على مصراعيه أو مشقوقاً بطريقة تسمح باستراق النظرات: آنذاك قمت بتحكيم مشروع التخرج الخاص بك وكنت أسمع سراديب أحاديث من كثر أن مجدي أبو مطر يحكّم مشروعه و"هوي حدا مهم". حين دخلنا غرفة التحكيم، كنت أراك صامتاً طوال الوقت. هذا النوع من الصمت الذي يصعب تحوير مساره أو فكّه...
الصورة الثانية:
قفزة زمنية. نحن الآن في حزيران 2019. التقينا في أحد الفنادق في بيروت لمقابلة نشرت في "المدن" في مناسبة عرض مسرحية الشقف ضمن مهرجان ربيع بيروت. لا أذكر اسم الفندق، أذكر فقط أنك كنت تنتظرني في فضاء يشبه البار، وكنت لا تفارق كاسة المتّة. أنت تشرب المتّة بالكاسة يا مجدي، تتخذّ من شروالك (الذي ترتديه دوماً) ما يتعدّى كونه زياً.. وتحدثنا... تشاركنا الكثير من الكلام عن الجامعة اللبنانية وأثر التنشئة في الشوف ومشوار كندا... قلت لي إن علاقتك مع النص المسرحي إشكالية. لذا أعدك أنني لن أطيل نصي عنك الآن. قلت لي إنك "حرفي" على الخشبة. أعرف أن الحرفيين لا يقيمون وزناً للكلمة حين تكتب. كلمتهم زخرفة في الفضاء، فِعل على مواد صلبة... وفعلتها يا مجدي.
أغلقت الباب. أنت الذي تتلمذت على يدّ عزالدين قنون، متبنياً جملته "ثقوا بذاكرة أجسادكم. الجسد يعرف، لا تفكروا". حين غادرت بيروت الى كندا وكنت مصمماً على الممارسة المسرحية كفعل حياة: أخبرتني أنك صنعت لائحة من كل المخرجين والفرق المسرحية في مدينتك، والتقيت بكل منهم على مدى أربعة أشهر، عارضاً عليهم البورتفوليو الخاص بك. وكانوا يقولون "جميل"، لكن لا مكان لك هنا، إلى أن أسست "MT Space"، تيمناً ببيتر بروك وكتابه الشهير "the empty space" ... يا للمفارقة. أتعلم أن بروك تركنا اليوم؟ خطا خطواتك اليوم بعدما خطوت الكثير من خطواته.
المسرح متعدّد الثقافات كان وجهتك في مدينة كيتشنر في مقاطعة واترلو، بعدما قدمت ثلاث عروض في بيروت. العرض الأول كان "نجنسكي ساعة زواجه بالرب" للكاتب الفلسطيني جليل القيسي (1998)، وعُرض في "مسرح المدينة" بعدما كان مشروع تخرجك، وشاهدَته نضال الأشقر وطلبت تقديم العرض في مسرحها. ثم قدمت "الآنسة" و"شي متل ماكبث" وغادرت الى كندا. كنت مصراً أن تقدّم كل عام عملاً مسرحياً في بيروت. من المؤسف أنه لا مواد توثيقية متوافرة لعروضك في بيروت. لن أطيل في الكتابة، أعدك. أنت أيضاً لا تحب كثرة الكلام.
أنت الشغوف بالإنسان كحالة، تناولت قضايا شائكة كحرب العراق في عرض Exit Strategy ولم تتوان يوماً عن إظهار تواضع قل مثيله وتمسّك بأخلاقيات تبتعد عن التوظيف الفني. في "آخر 15 ثانية" وهو عمل يتناول التفجير الذي طاول المخرج مصطفى العقاد، كنت مرتبكاً وغير راضٍ عن نتائج التمارين. كانت تؤرقك فكرة عرض "مسرحية عن الإرهاب"، تقدّم "مسلماً وتنمطّه كإرهابي؟". جمعت الممثلين وقلت لهم في منتصف مراحل التحضير أن العمل لن يكتمل: "إما أن نلغي العروض أو نطلب من الجمهور أن يحضر العروض بشكل شبه مجاني، ونقول له: لدينا مشكلة في هذا العرض ساعدونا في حلها. لكن الممثلين رفضوا الاقتراحين وهم الذين أنقذوا العرض".. هكذا قلت لي.
مسرحية Body 13 كانت الأكثر مدعاةً للفخر لك، وهي تتناول موضوعة الجنسانية وتقاطعها مع شتى أنواع الاختلافات: السن، العرق، الجندرة، المثلية الجنسية الخ. قلت لي أن "آخر 15 ثانية"، كانت الأكثر رواجاً والأكثر طلباً، ولم يرُق لك كثيراً هذا الأمر. لم تكن تريد أن تكون أسير تمثيلات الهوية وتنميطاتها: "أحسستُ لأنني أنتمي الى الهوية العربية والمسلمة ولأنني أقدّم حكاية عن الإرهاب، كل الناس تتوق لأن تراها، وأنا العربي المسلم حين أقدّم مسرحية عن الحب ليس الأمر بالأهمية نفسها"..
أتذكر؟ أتذكر كمّ مرة قلت كلمة "تحديت" أو "خلقت فرصتي بيدي"؟
"حكيت حكايتك يا مجدي وفليت...." أجمل الإطراءات بالنسبة إليك، كانت حين قالت لك جليلة بكار "مجدي، أنت تعرف كيف تحكي حكاية"... وحكايتك حكيتها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها