على خلاف ساحات الثورة في مناطق كصيدا وبيروت وجل الديب والزوق وطرابلس..، تحوّلت الاعتصامات في جنوب لبنان، النبطية وصور إلى اعتصامات رمزية غير قادرة على استقطاب أعداد كبيرة من المتظاهرين. أسباب كثيرة حالت إلى ضعضعة الحراك الجنوبي وتراجع أثره في الميدان، ما جعل مجموعات الحراك صغيرةً، تُكافح من أجل البقاء على الأرض، فيما تمكّن الإرهاب الذي مارسته "قوى الأمر الواقع" في المنطقة في إبعاد المواطنين عن التواجد في الساحات.
استراحة محارب وانسحابات
عايشت ساحات الثورة في الجنوب أيامًا صعبة، وعانى المتظاهرون من شتى أنواع المضايقات، بدءًا من التهويل والتخوين إلى التهديد، وصولاً إلى اعتداءات بالعنف. كل ذلك أدى إلى تراجع الزخم في تلك الساحات، بعد حذر المواطنين من المشاركة وتفضيلهم مراقبة الوضع عن بعد. ناهيك عن أن استقالة الحكومة أتت على هيئة إنجاز شعبي حثتهم على التريث والدخول في فترة راحة مؤقتة. وقد تم إظهار الأمر على أنه "استراحة محارب" قرّر الثوّار اتخاذها بعد استنفاذ جهودهم، والجلوس لمراقبة الأحداث، وما سينتج عنها والتفكير بالخطوات اللاحقة.
في مدينة صور، قرّر جزء كبير مكونات الحراك تعليق المشاركة في الاعتصام، بعد تنفيذ المطلب الأول من المسار الاصلاحي، الذي يطالب به المعتصمون، مع الإبقاء على الجهوزية الكاملة للعودة إلى الشارع، في حال بدأت السلطة المماطلة في تشكيل الحكومة أو طرح أسماء استفزازية. فيما استمر الحزب الشيوعي وبعض الناشطين الفرادى في اعتصامهم على دوّار العلم. وهذا، في الوقت التي وصلت الضغوطات حد استدعاء الناشطين والتحقيق معهم حول دورهم في التظاهرات والتعرّض لرؤساء الأحزاب في المنطقة.
الضعف في النبطية
في النبطية، تم فتح الطرقات وانسحب المعتصمون عند دوّار كفررمان إلى خيمتهم على جانب الطريق، فيما تم تحديد وقت للاعتصام أمام السراي من الساعة 4 إلى السابعة مساءً، بعدما كان من المقرّر البدء به عند الساعة الحادية عشر صباحًا، إلا أن عدم حضور المعتصمبن حال دون ذلك. ولا شكّ أن إنشاء ساحتين للحراك في النبطية، الأولى أمام السراي الحكومي يقودها مستقلون وناشطون في المجتمع المدني، والثانية على دوّار كفررمان أضعف هذا الحراك.
الحال بين النبطية وصور واحد، والبيئة التي نهض منها الحراك هي نفسها. قوى كبرى تستنفذ كل جهودها بغية إنهاء هذه الاعتصامات. وعلى الرغم من كل المحاولات وإختلال موازين القوى بين الحراك والأحزاب السياسية (أمل وحزب الله)، إلا أن الحراك نجح بالصمود أمام كل ما تعرّض له، فقد وحّدت المطالب الأهالي وجعلتهم يواجهون الأحزاب حتى هذه الساعة. ويحرص المحركون على الأرض على تواجدهم يوميًا، حتى لو كانوا قلّة. فإن كانت تظاهراتهم رمزية، فإن ذلك لا يُلغي فعالية وجودهم في الساحة، وما يعني ذلك للقوى المعارضة لهم. بل هي على العكس تدل على مواجهة يخوضها الموجودون في الساحات.
الخطاب المغاير
يتسم الخطاب في الجنوب بالعقلانية، فالمطالب "عقلانية" ونابعة من معاناة الأهالي. هي انتفاضة على الجوع وثورة على الفاسدين. يرفض المشاركون في الحراك تسمية الفاسدين بالأسماء. فهي ليست انتفاضة على نبيه بري وحده مثلاً، أو على حزب الله وحده. بل على كل الأيادي الملطخة بالسرقة. أما رفع شعار "كلن يعني كلن"، فهو ضد جميع الفاسدين سواء انتمى إلى حزب الله أو حركة أمل. وهم بذلك يراعون البيئة المهيمنة في الجنوب والتي تفرض أساليب معينة في الضغط. لذا، لا يريدون خطابات تُلجم الأهالي عن المشاركة في التظاهرات، لاسيما أن الخوف بات مسيطرًا على النفوس، على إثر التهديدات التي وُجهت إلى المشاركين. بل يريدون خطابات تنطلق من الأزمة المعيشية الصعبة التي أوجدتها السلطة. كما أن البيئة المحافظة في الجنوب، أدّت إلى اعتماد خطاب راقٍ يبتعد عن السب والشتم، ويراعي فيه "حساسية" المنطقة ككل، واستعمال شعارات لا تُنفر المعتصمين، على عكس ما حدث في اليومين الأوليين في الحراك.
يُضاف إلى ذلك، أن لائحة المطالب تختلف عن المطالب التي تنادي بها مجموعات الانتفاضة في بيروت أو المناطق. إذ أن اسقاط العهد والنظام الطائفي مطلب فضفاض. هم يريدون البدء بالمحاسبة عبر رفع اليد عن القضاء ورفع السرية المصرفية وتفعيل الهيئات الرقابية، والوصول إلى انتخابات نيابية مبكرة. بلغة أخرى، الوصول إلى هذه المطالب يجب أن تتم بطرق سلمية وسلسة، تراعي البيئة السياسية في المنطقة. ومن هنا جاء قرار فتح الطرقات في الجنوب.
لا سبيل للتراجع
يكتنف الغموض ساحات الجنوب، الترقب والانتظار سيدا الموقف. اضمحل تأثير هذا الساحات على الساحات الأخرى، وتحوّلت إلى ساحات تتأثر بما يحدث في ساحات بيروت وطرابلس وغيرها. محاولة إلغاء هذه الساحات نجحت إلى حد ما، إلا أن المثابرين على التواجد والاعتصام السلمي لا يرون سبيلاً للتراجع. فهذا الأمر ممنوع، والانسحاب هو الموت، لأن في قاموس الثورات لا يوجد " نصف ثورة". كما أنهم يرفضون الحديث حول نجاح الأحزاب في لجم الحراك.
الثورات تكتمل باسترجاع الحقوق. هم يتأملون ويبحثون عن طرق تعيد أهل الجنوب إلى الأيام الأولى للحراك حين تخطّت الجموع الآلاف. إلا أن "الرؤية" منعدمة حتى الساعة.
ماذا بعد؟ وما هي الخطة التالية؟ لا أحد يعلم. يقول أحد ناشطي الحراك في النبطية حسن قانصو في حديثه لـ"المدن": "هذه ثورة، والثورات لا يوجد فيها خطوات مدروسة. أما ماذا بعد، فنحن اليوم نخوض ثورة للمرة الأولى ونتعلم من تجربتنا حتى أخذ حقوقنا.
يُجمع المؤثرون في الحراك على ضرورة الثبات على الأرض، كخطوة آنية لا تخلو من الأهمية. فانصرفوا إلى رفع قيمة التواجد على الأرض عبر عقد حلقات نقاش وتوعية للمواطنين، يناقشون يوميًا المطالب والحقوق في جلسات يديرها أهل الخبرة والاختصاص.
آلية للحوار
في صور، تتضح الرؤية شيئًا فشيئًا، توصّل المشاركون إلى خطة تقوم على وصل صور المدينة حيث يجري الاعتصام، مع صور المنطقة حيث يسكن الأهالي، بهدف خلق آلية حوار تحث الأهالي على المشاركة في النقاش. هذا الأمر يُراد منه إظهار الجنوب في صورة توحي بالديموقراطية والمحاورة، وأنه جزء من هذا الوطن.
وفي خطٍ مواز، يعتمد الحراك على الجيش والشعب في حمايته. إذ أولى منسقو الحراك الثقة إلى الجيش والشعب لتأمين حالهم في الأيام المقبلة، في حال حدثت محاولات بالعنف لفض الحراك.
إذًا، الساحات باقية حتى لو كانت الأعداد خجولة، الحوار مع الأحزاب المهيمنة (حزب الله وحركة أمل) غير قائم، على اعتبارهما جزءاً من السلطة، إلا أن الترحيب بالمواطنين المنتمين إليهما كأفراد موجود دائمًا.. من أجل التغيير.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها