إنها المرة الأولى في تاريخ لبنان التي يتوحّد فيها اللبنانيون ضد زعمائهم كلهم. لم يستثنَ حتى ذاك الذي تحيط به هالة "التقديس"، والذي كان خارج أي نقد. المشهد لا يُصدّق وغير متوّقع بالكامل. هذا الشعب الذي لطالما تم وصفه بـ"المخدّر" و"النائم" وغيرها من الأوصاف استيقظ من سباته وثار في وجه السياسيين.
هي مرحلة انتقالية وجديدة. منذ ثلاثة أيام واللبنانيون في الساحات يهتفون ويصرخون بإسقاط النظام. الساحات خلت من الأعلام الحزبية الملونة، وساد العلم اللبناني وحده شعارًا للثورة الجديدة.
وإذا كانت ساحتا رياض الصلح والشهداء اعتادتا هذا المشهد منذ زمن. اعتادت جمع الآلاف والملايين، والهتافات التي تصدح فيها.. إلا أنه كان فوق التصور في الجنوب. هذا حدث صاعق بالكامل. "الحلف الثنائي" الشيعي كان "يضمن" أهل الجنوب دائمًا. وفي كل مرحلة كان الجنوبيون يولون ثقتهم لهذا الحلف من الانتخابات إلى أصغر تفصيل في شؤونهم اليومية، ويخضعون للسياسات الكبرى التي يرسمها هذا الثنائي.
اليوم، أرسى الجنوبيون معادلة جديدة وفرضوا وجودهم. خرجوا ليقولوا لزعمائهم "كفى"، وأن كل ما قاموا به على مر السنوات حوّل أهل الجنوب إلى فئة جائعة ومظلومة.
في مدينة النبطية كان آخر حشد كبير متزامناً مع ذكرى السيد موسى والعاشر من محرّم. هاتان المناسبتان اللتان تأخذان طابعًا دينيًا، لطالما اجتمع أهل الجنوب لإحيائهما. لم يكن في الحسبان أن يخرج أهل النبطية لرفض الظلم الذي يحصل بحقهم وأن يصرخوا "هيهات من الذلة" في وجه أحزابهم بالذات وأولاً، وفي وجه النظام الطائفي والسياسة التجويعية التي يمارسها.
شهدت مدينة النبطية، أو "مدينة الحسين" كما يلقبونها، ثلاثة أيام من الاعتصامات والحشود الرافضة للذل الذي يعيشه لبنان بأجمعه. وهو بهذا المعنى تمرد سياسي بالغ الأثر. حاولت حركة أمل في اليوم الثاني التدخل بالسلاح وبمحازبيها لإنهائه. قاموا بالاعتداء على مجموعة من الشباب لفض اعتصامهم. الأمر عينه حدث في مدينة صور. اعتداء بالضرب على كل من تواجد في الاعتصام. ظنّت "أمل" أن تدخلها هذا من شأنه إرهاب المعتصمين وثنيهم عن التظاهر والتجمع. لكن العكس هو الذي حدث. مشاهد الاعتداءات أشعلت الغضب في نفوس الجنوبيين، شعوراً بالدفاع عن الكرامة: "ما هكذا يعامل الجنوبيون". ما جعل المشهد يتحول إلى حشود كبيرة.
من شارع محمود فقيه مرورًا بأحياء النبطية كلها، سار الآلاف، كبارًا وصغارًا موحدّين بالعلم اللبناني، والمطلب الواحد: إسقاط النظام، وإجراء الإصلاحات التي من شأنها تحقيق العدالة الاجتماعية. المطالب هي نفسها في كل لبنان.
لم تفلح حملة بث الأخبار الملفقة والمتناقلة على الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي، التي راحت تتهم "أيادٍ خفية تحرّك هذه التظاهرات وتموّلها"، في ثني الجنوبيين عن المشاركة في "الثورة"، معتبرين أن الجوع واحد، والوجع وحده. وقد حان الوقت لإنهائهما.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها