بعد الجدل الذي أحدثته صورة الزميل المصوّر نبيل اسماعيل عن الدكتور "طيّاح" الممدّدة جثته أمام سيارة مرسيدس بيضاء في منطقة العدلية إثر رصاصة أصابته في نهاية الحرب الأهلية عام 1990، تبيّن لـ"المدن" أنّ الضحيّة ليست مجهولة الهوية، وليس من مفقودي الحرب كما قال اسماعيل. كما تبيّن أن أهل طيّاح لم يتواصلوا مع أحد ليحلّوا لغز فقيدهم، لا سيّما أنهم دفنوا جثمانه في حينها، بعد استلامهم له من مستشفى أوتيل ديو في العام 1990.
وحسب بيانات جامعة القديس يوسف، تعود صورة القتيل إلى الدكتور سليم طياح وهو من مواليد غزير 1930، الذي تخرج في عام 1958 وكان يدرّس في الجامعة. وبعد مراجعة رئيس بلدية غزير شارل سمعان الحداد تعرّف على طيّاح لدى سماع اسمه، مؤكدّاً أنه ليس من مفقودي الحرب. وقال في حديث لـ"المدن": "دفن الدكتور طيّاح في غزير على ما أذكر وهو ليس من مفقودي الحرب". ولكون الشكّ انتاب الحداد زوّد "المدن" بهاتف أخ الضحية رينيه طيّاح الذي أكّد تسلم العائلة لجثّة المغدور به ودفنها في غزير.
وروى طيّاح آخر لحظات حياة أخيه موضحاً أنّ مقتله أتى من طريق الخطأ، ولم يكن مستهدفا من أحد، لا سيّما أنه لم يكُن ينتمي إلى أي حزب وليس لديه عداوات.
وقعت الحادثة في نهاية العام الدراسي 1989-1990 عندما قرر طيّاح تمديد حصة التدريس لثلاث ساعات إضافية لينهي جميع الدروس للطلاب. لم ينصت لمناجاة الطلاب وزملائه بعدم الذهاب إلى منزله حيث كان أزيز الرصاص يُسمع في الخارج. سلك طريق المتحف-العدلية للذهاب إلى غزير لملاقاة عائلته، لكن رصاصة قناص أصابته وأردته قتيلاً، ومن ثم نقلت جثّته إلى مستشفى أوتيل ديو عندما توقفت الاشتباكات، بعد نحو أسبوع.
تعرف الجسم الطبي في المستشفى على جثّة زميلهم، ودفنت في بيروت لصعوبة الوصول إلى غزير وبمعرفة أهله وموافقتهم. لكن الأهل عادوا ونقلوا الرفات إلى غزير ودفن هناك لاحقاً. وقد استغرب طيّاح الأخ ما أثير في الإعلام عن أن الدكتور هو من مفقودي الحرب أو أن أحد أفراد العائلة تواصل مع اسماعيل ليشكره على "حلّ لغز" كما زعم المصوّر الصحافي.
هل من داعٍ لنبش جراح الحرب انطلاقاً من قضية المفقودين؟ وهل خفّ الابداع لدى الزملاء الصحافيين لاختلاق قضايا وهمية بغية تحصيل "سكوب إعلامي" يسقط أمام بحث بسيط عن المعلومات ليتبين أنه من صنف الـ fake news؟ ولماذا نبش اسماعيل هذه الصورة بعد عام على زعمه تلقيه الاتصال - "اللغز"؟ ولماذا لم يعر أمر بهذا الحجم أي انتباه العام الفائت؟ وهل يدرك الزميل مدى خطورة "التلاعب" بشعور أهالي المفقودين وكيفية انعكاس الأمر عليهم؟ وهل يدرك قلة الثقة التي ستصبح بين هؤلاء بأهمية "الصورة" وأرشيف الصور، الذي يمكن أن يكشف مصير مفقود ما؟
بعد سرد وقائع مقتل طيّاح وتعرف أهله على الجثة ودفنها، وعدم هيامهم طوال تلك السنوات الـ27 لحل "اللغز" المزعوم، يقول اسماعيل في حديث لـ"المدن" أنه كان على علم بمصير طيّاح واسمه الكامل بعد عرضه للصورة في البرنامج التلفزيوني، إذ تلقى اتصالا من أحد أفراد العائلة للحصول على الصورة. وجريا على عادة محبي "الظهور" وليكونوا تحت الضوء غيّر اسماعيل أقواله بعد أن كشفت "المدن" فضيحة الصورة، مقرّاً أن أهل "المفقود" طيّاح هم بمثابة أصدقاء، ويتواصل معهم بشكل دائم. فيما كانت روايته المنشورة على صفحته بالفايسبوك أنه تلقى الاتصال من أحدهم ولم يعد يذكر إسم المتصل. وبرر اسماعيل تناقض أقواله وروايته بأنه قصد من إعادة نشر الصورة التعبير بأن "الصورة شريكة مع الضحية في لعن الحرب".
لعل "اللغز" الوحيد في البلبلة التي نتجت عن صورة اسماعيل ليس الكشف عن مصير مفقود من مفقودي الحرب كما تأمل أهالي المفقودين وتأمّلنا، بل الإلحاح على ضرورة طرح أسئلة باتت ملحّة أمام الجسم الإعلامي، في عصر الهرولة من أجل تحصيل عدد قرّاء يتباهون به، أو نيل شهرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
صورة اسماعيل حقيقية..لكنها باتت ضحية مصوّرها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها