لماذا يقتصر جهد المنظمات النسويّة غالباً على استقطاب النساء؟ كيف تفسر ظاهرة قلة تمثيل النساء في الأحزاب السياسية خصوصا تلك المناهضة للنظام السائد؟ وما أسباب غياب الأجندات النسائيّة عن هذه الأحزاب؟ ولماذا نشهد تغييرات بطيئة جدا في العمل النسوي بالرغم من وجود منظمات نسويّة كثيرة؟ من هذه الأسئلة الأوليّة انطلقت برناديت ضو، وهي مناضلة نسوية وباحثة، في تحقيقها الميداني الذي نتجت عنه دراسة بعنوان "النسوية في لبنان: "موقعها بمواجهة البطريركية وتجددها خلال الربيع العربي". هذه الدراسة نوقشت، أمس، في جمعية "دعم لبنان". وربما لم تستطع الدراسة الإجابة عن الأسئلة المطروحة إلا أنها استطاعت فتح النقاش للتفكير الجدي حول التحركات النسويّة.
قامت ضو بمقابلة نحو 20 منظمة وحملة نسويّة بالإضافة إلى مقابلات مع ناشطين/ات مستقلين/ات. كان هدف المقابلات بحسب ضو التمكن من رسم مسارات نضالية، ومعرفة اللحظات التاريخية والمفصلية التي أثرت على هذه المسارات. البحث الذي قامت به ضو يكشف عن الموجات المختلفة للحركة النسوية في لبنان. لا تكتفي الدراسة بالكشف عن هذه الموجات بل تظهر نوع العلاقة بينها وبين النظام البطريركي اللبناني. كما تظهر الدراسة وسائل الإستقطاب التي تستخدمها النسويات في نضالهن وقدرتهن على تحريك الرأي العام بهدف تحقيق التغيير الاجتماعي. وقد لاحظت ضو أنّ الموجات النسوية المختلفة هي وليدة عصرها، بمعنى انّ هناك ارتباطا شديدا بينها وبين خطابها والأدوات النضالية والمراجع الأيدولوجية التي تستخدمها، وبينها وبين القضايا المجتمعية والسياسية العامة، إن كان على مستوى المحلي أو الدولي.
تظهر دراسة ضو أنّ هناك خاصتين أساسيتين للحركة النسوية. الأولى كونها حركة وطنية انبثقت من الاستقلال الوطني العام 1943 الى تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. ولم تنشأ كحركة حقوق مدنية كما الحركات الأخرى في فرنسا، والولايات المتحدة. أما الخاصية الثانية فكون الحركات النسوية صودرت من قبل الرجال بدلا من ان تتمايز عنهم.
إستطاعت ضو التمييز بين أربع موجات نسوية في لبنان. الأولى ولدت في الخمسينات واستمدت شرعيتها من النضال بهدف استقلال الدولة القومية اللبنانية. تمّ التركيز فيها على المشاركة بمعركة الاستقلال للمطالبة بالحقوق السياسية، كحق الاقتراع والترشح الى المجلس النيابي. كما أنّ نسويات هذه الموجة كنّ من البرجوازية اللبنانية. وقد نلن فرصة للتعلم العالي. وقد اتسمت هذه الموجة ببعدها عن هموم الاوساط الشعبية، وقد بوركت من قبل الزعماء السياسيين والطائفيين.
في حين أن الموجة الثانية ولدت مع انحلال الحركات القومية في لبنان وفي الدول العربية، ومع فشل البرامج التنموية التي كانت تطرحها حركات الاستقلال. وهكذا تمّ الانتقال من نسوية قومية إلى نسوية يسارية انبثقت من داخل الأحزاب اليسارية الّا أن أولويات هذه النسوية كانت تابعة للأولويات الوطنية التي كانت تضعها هذه الأحزاب. وقد تمّ قمع الأولويات النسوية لصالح أولويات التحرر الوطني والتنمية المناطقية. بالإضافة إلى المراقية التي كانت تخضع لها هذه الموجة من قبل "الرفاق" في الأحزاب، مما دفع بالنسويات إلى الإنفصال عن أحزابهنّ وتشكيل منظمات خاصة بهن، إلا أن أجنداتهن بقيت تابعة للأولوية الحزبية. ثم ما لبث نضالهن النسوي أن تحوّل خلال الحرب الأهلية إلى نضال إغاثي ومساعدة اللاجئين والنازحين.
الموجة النسوية الثالثة ولدت بعد فترة التسعينات وساهمت في تحويل الحركات الاجتماعية إلى منظمات كما تمّ تجزيء القضايا. وقد بدأ استعمال الوسائل الدولية، ولا سيما مع عولمة القضية النسائية عبر "سيداو"، الاتفاقية الدولية لالغاء التمييز ضد النساء. وتشكلت هذه الموجة عبر خبيرات وخبراء إستطاعوا استعمال لغة الممولين الدوليين، وساهموا أيضا بتمهين ومأسسة الأجندة النسوية في لبنان.
أمّا الموجة الرابعة التى تعود لبداية الألفية الثالثة، أي في ظل صعود الحركة المناهضة للامبريالية ومن أجل عولمة بديلة، فتمثلت بتبلور الحركة النسوية حول سياسات الهوية، ولا سيّما الهويات المثلية، "المثلية الجنسية". هذه الإشكالية لم تطرح في أي من الموجات التي سبقتها. ولكن بالرغم من التجذر الظاهر للخطاب وانطلاق الاشكاليات المرتبطة بالجسد والجنسانية، إلاّ أنّ هذه الموجة لم تحمل مشروعا سياسيا تغييريا حقيقيا. بل عبرت عن نوع من النخبوية كما في الموجات السابقة. هذا عدا عن هوية النسويات التي تضمنت أولويات الممولين الدوليين. وكأن التجذر بالنسوية تطبّع بشكل ما مع القيود التي يفرضها الممولون الدوليون من دون أي أثر فعلي على البنية الأبوية ومن دون ارتباط فعلي بالشرائح الشعبية في لبنان.
وفقا لكل ما سبق، "هل يمكن الحديث عن فشل النسوية في لبنان؟"، هذا ما تطرحه ضو في ختام دراستها. وتضيف أن الإجابة عن هذا السؤال يمكن إستخلاصها عبر دراسة التحولات ضمن الحركة النسوية نفسها، ولا سيما في ظل صعود الحركات الاجتماعية في الدول العربية المحيطة خاصة عبر صعود الاشكاليات المتعلقة بالجسد وبقصصه اليومية وبتاريخ النساء اليومي. ومن خلال دراسة هذه التحولات فقط يمكننا فهم اعادة انطلاق الحركات النسوية وقدرتها على مناهضة البطريركية والنظام السائد.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها