الخميس 2024/07/18

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

رائحة مطار رفيق الحريري الدولي

الخميس 2024/07/18
رائحة مطار رفيق الحريري الدولي
تعتريك مشاعر من يود الهروب سريعاً من هذا المكان الخانق (Getty)
increase حجم الخط decrease

بعض الأفلام الأجنبية، الدرامية أو الوثائقية، الجيدة والرديئة لا فرق، التي تتضمن لقطات لمطار بيروت، خصوصاً تلك التي تتطرق إلى حقبة الحروب وفترة الثمانينات تحديداً، تعرض مشاهد نموذجية لمطار في بلد من العالم الثالث تطحنه الفوضى والغوغائية والصخب، مضاف إليها مظاهر ميليشياوية لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها. كان حينها رمزاً لما يسمى "الإرهاب الدولي".

في التسعينات، وبعد هدم القديم وإنشاء الجديد، بدا مطاراً لائقاً ونظيفاً، وإن ظل صغيراً بمقاييس المطارات العالمية.. إلا أنه بكل الأحوال، فقد إلى الأبد جماله القديم وهويته العمرانية. وفاقم من انعدام جاذبيته تحولات البيئة المحيطة به، عمرانياً وبيئياً. وكان حينها رمزاً لحقبة التفاؤل الساذج التي يمكن اختصارها بالعبارة الغنائية التي راجت آنذاك، "راجع لبنان".

بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، اتخذ المطار اسمه، تكريماً لرمز إعادة الإعمار والبناء والسلم الأهلي. لكن الاغتيال كان بالضبط يستهدف تلك المعاني بالذات. اغتيال الرمز.

وبالفعل، كان ابتداء حرب 2006 بضرب إسرائيل للمطار وتخريبه. تدمير البنية التحتية والجسور والمرافق العامة ومعامل الكهرباء. رغبة إسرائيلية انتقامية في تحطيم تلك الصورة الساذجة والمغرية لتسعينات ومبتدأ الألفية الثانية عن لبنان الكرنفالي.

على امتداد عقدين تقريباً، كان البلد بأسره ومطاره يتحللان ببطء مؤلم، يفسدان ويهترئان.

الأخبار والتقارير والحوادث التي أحاطت بالمطار والطرق المؤدية إليه، وبالعاملين فيه وموظفيه، كانت كافية لتلطيخ سمعته وتشويهها، إلى حد أن تقريراً ملفقاً نشرته صحيفة التلغراف البريطانية، كان سهل الترويج والتصديق، طالما أن المطار حفل لسنوات كثيرة بحقائق مزعجة.

وفي الأثناء، راح المطار يتخلف تقنياً، ويتقهقر بخدماته ومرافقه، يتلبسه الفقر. هو بوابة لبنان وصورته المزرية.

منذ يومين هبطت فيه، آتياً من أحد مطارات العالم (أيّ مطار طبيعي)، وعلى الفور بدأ التراكض وبدأت تتعالى الأصوات كما في سوق الخضار. وبلمح البصر كانت تتنامى الطوابير بضيق وارتباك أمام منافذ "الأمن العام"، وبعدها يأتيك العمال الذين يقترحون عليك عربة للحقائب، بما يشبه التسول.. وتعتريك مشاعر من يود الهروب سريعاً من هذا المكان الخانق والكئيب.

استعجل الوصول إلى الخارج. ويا للهول، حين تداهمني تلك الرائحة الفظيعة. هذا الهواء الثقيل المشبع بتخثر وتخمّر مئات الأطنان من النفايات. "عطر" جهنمي يدخل الخياشيم فيدوخني، ويقلب أحشائي. ليل بهيم شديد الرطوبة وازدحام فوضوي وعشرات الأصوات تهاجمني مرددة: تاكسي؟ تاكسي؟ تاكسي.. وأبواق سيارات تحاول "تسلق" بعضها البعض أو بالأحرى تتعارك ككائنات معدنية غاضبة ومجنونة.

لكن تلك الرائحة تظل رابضة وخانقة تعدم الأنفاس، والبشر جميعهم كمن فقدوا اتجاهاتهم يحاولون التسابق للفرار من هنا، متعرقين متوترين.

على هذا النحو يستقبل لبنان زواره ومواطنيه العائدين. على هذا النحو عبق البلد كله يغمرنا. نفاياته هي مَعْلَمه الأول، نصبه التذكاري الهائل.

وإذ "نهرب" (بالمعنى الحرفي) من المطار وهوائه وأصواته، نبتدئ بالطريق المؤدية إلى بيروت. وهذا ما لا نتجرأ على وصفه والكلام فيه. طريق لا تزعجنا عتمته، طالما أنها تخفي قليلاً ما يقع وينتصب على جوانبه.

شيئاً فشيئاً تآلفت مع تلك الرائحة النتنة التي استقرت في رئتيّ، وعلى جلدي وفي ثيابي، وربما استقرت في روحي، حتى صارت هي رائحتي التي تنفث من مسامي وفمي وأنفي. وإلا ما معنى تآلفي معها بلا أي تأفف أو انزعاج.

رحت أتخيل أنها رائحة لبنان وسكانه، رائحتنا الوطنية، نعيش في فضائها، وتحت سلطتها غير المرئية. ربما باتت بصمتنا البيولوجية التي سنحملها أينما ذهبنا. بل إنها رائحة حقبة كاملة من تاريخنا، ومن حاضرنا الذي نعيشه كبلاد تهترئ وتتحلل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها