بعد انفجار 4 آب 2020، وانطفاء الانتفاضة المدنية، كان المشهد الوطني مضمخاً بالرماد والمرارة. وكان مستقبل لبنان يُختصر بحدث يومي واحد ومتواصل: هجرة عشرات الآلاف من الشبان والشابات من ذوي التعليم العالي، وغيرهم من أصحاب الكفاءات والموهوبين.
كان الأهل يودعون أفضل ما في البلاد. كان لبنان يخسر أرقى استثماراته البشرية. وكانت الغلبة للنقيض الذي لا ضرورة لتسميته.
وإذ تزامن ذلك مع أكبر منهبة مالية، وسقوط اقتصادي يفوق الوصف بفداحته، وإفقار مئات الآلاف حتى الإدقاع.. إلا أن الكارثة الفعلية تجلّت بفقدان تلك الثروة الشبابية، التي لا تُعوَّض.
ليس البشر وحدهم من يرحل، الأماكن والفضاءات التي "يصنعونها" هي أيضاً تغادرنا. فالعمران الذي يشع حياة يحتله الخواء ويفقد وجوده. أنماط السكن والمجاورات والصلات العابرة والمستدامة و"التلاقح" الاجتماعي وتقاليد المشاركة والتأثير، وابتداع عيش وصور عيش ومراياه المتبادلة.. كلها تتحطم ويأكلها النسيان.
بعد العام 2020، رحنا نودع معالم المدينة وشوارعها وساحاتها وكورنيشها وليلها وأرصفتها.. وصنّاع حيويتها وفنونها ومطارحها اللامعة والمضيئة. فيما البشاعة والرثاثة والفوضى التخريبية تنهشها بلا هوادة.
كان هناك مجتمع يموت، ومجتمع نقيض ينتعش.
بدا هذا مصيراً لا راد له. واليوم في الذكرى الخامسة لـ"الشهقة" اللبنانية الأخيرة (17 تشرين الأول 2019)، يعلو الركام أكثر فوق أطلال البلاد، بفعل الحرب التدميرية. أنفاسنا مكتومة، لا شهيق ولا زفير مع "الصواب السياسي" المهيمن والقاتل. ولذا، من الأجدى أن نودع أيضاً ذكرى 17 تشرين، وندرجها في النسيان، أو في دفتر الخسارات.
منذ عام أيضاً، راح سكان أجمل القرى بخيراتها، زيتوناً وعسلاً وزعتراً..، هناك في أقصى الجنوب، يودعون بيوتهم المبنية بشقاء أجيال. وتبعهم أهل كل الجنوب والضاحية وشمال البقاع. وداعات دموية ورحلات هروب ملحمية وأهوال. وداعات للأرض الطيبة، للشجر، لهناءة الهضاب الخصبة ووئام العائلات والحكايات المتناسلة عبر الفصول. الأمكنة كلها بعد البشر وأمواتهم كانت تغادر. الحدائق، المساجد الصغيرة العتيقة، الأسواق (سوق النبطية التاريخي مثلاً)، الساحات المزهرة، برك الماء، مصطبات العجائز، شجرة الدار، عرائش السطح، مسكبات الخضار خلف البيت، المدرسة، دار البلدية، فرن الضيعة.. كله وأكثر إلى الهجران والدمار.
أرض يباب. ولا ندري ما بعدها.
وهنا في بيروت، ها نحن الناجين حتى الآن، وإذ نحاول الاحتيال على الحرب، ومراوغتها بإصرارنا على روتيننا ومسراتنا الصغيرة وإيقاع أوقاتنا وتسلياتنا ومشاغلنا، نرى انقلاب كل شيء وخرابه البطيء الذي يتوسع ويتوطد، ويتغلغل في حياتنا ويكسرها ويسلب منا ما نحبه وما نرغبه وما نريده. يأخذ حياتنا إلى مزيج الرعب والتفاهة والعجز.
كل يوم نسأل: هل سيبقى هذا المقهى الذي نأنس لجلسته ولرواده ولرصيفه؟ هل سيبقى هؤلاء السكان الرائقون المنسجمون في حيّهم الراقي؟ هل سيبقى هذا المبنى البديع؟ هل سيبقى ذاك البائع الذي يجلب نوادر الهند، أقمشة وحلى ومصوغات فضية؟ هل سيبقى لنا بحر وسماء وقمر؟ هل سنظل أصلاً في بيتنا؟ هل ننجو للمرة المئة؟
واليوم أيضاً، كالمعتاد منذ خمس سنوات، نودع شابات وشباناً ما عاد لهم أمل ولا سبب بالبقاء. جيل جديد نخسره، تحمله الطائرات إلى أي مكان بعيد عن هذا المشرق التعس.
بل نخسر أيضاً "الغرباء" (والغرباء دوماً يصنعون المدينة). يغادرون حاملين معهم ألوان لغاتهم وثقافاتهم، ليتضاعف القحط والجدب.
نودع موتانا الذين يتكاثرون، جيراننا، أصحابنا، أبناءنا، أقاربنا، أماكننا وأرضنا وأشياءنا وملذاتنا الصغيرة وحيواتنا الشخصية. المستودع الضخم لخساراتنا الذي بات فائضاً. ووحده سيبقى ماثلاً كنصب تذكاري هائل فوق أرض اليباب هذه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها