لكن فليسأل هؤلاء أنفسهم: من الذي سعى جاهداً، وبجبروت سلاحه وترهيبه وتأليبه بين الجماعات اللبنانية، لأن يرث أساليب النظام الأسدي في إدارته الحياة السياسية في لبنان، ويتحكم بمفاصل السلطة في الدولة اللبنانية، بعد انسحاب القوات الأسدية وحملها، في العام 2005، على إنهاء احتلالها لبنان؟
والإرث ذاك هو الذي اختط معالمه وملامحه العريضة نظام حزبُ البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق في الستينات من القرن العشرين، ثم حوّله حافظ الأسد السوري وصدام حسين العراقي في السبعينات إلى نظامين ديكتاتوريين أمنيين عائليين، دمويين وماحقين، يقومان على عبادة القائد الفرد وتقديسه. وهذا ما نسج على منواله المعدّل إيرانياً خمينياً حزب الله حسن نصرالله في لبنان. وكلنا يعلم، بل رأى وشاهد، ما آلت إليه سوريا الأسد والعراق الصدامي من قتل وتدمير وخراب وتشريد. وها نحن في لبنان نلتحق في الركب المشرقي المروع.
أليس هذا ما بدأه الحزب الإيراني المسلح وحده في لبنان، قبل الانسحاب الأسدي؟ ومن كان يشارك نظام الأسد في منح صكوك "المقاومة" و"الممانعة" التي مكّنت حامليها من الدخول إلى نادي المناهبة وتقاسم الغنائم من بابه العريض؟ ومن حمّل لبنان واللبنانيين - أقله منذ جلاء الاحتلال الإسرائيلي في عام 2000 - أكلاف الحروب الخارجية والداخلية التي خاضها بالوكالة حزب الولي الفقيه؟ والحروب "المقدسة" هذه، ماذا كان هدفها وإلى ماذا آلت؟ ألم تكن على الطريقة الأسدية، ذريعة الوصول إلى السلطة والسلطان الأمنيين؟ وهل آلت إلى تحسين حياة اللبنانيين واقتصادهم وتعليمهم ورفاههم وعمرانهم وصورتهم في العالم، أم أدت إلى مضاعفة صلف "أشرف الناس" و"سادة الوجود"، تبجّحهم وعدوانيتهم، كما إلى عبادة "الشهداء" وما يسمى "الشرف" و"الكرامة" العسكريتين، معطوفين على "صرماية السيد"؟ وهذا كله وصولاً إلى سيطرة حزب الحرب الدائمة على لبنان، ليتمكن وليّه الإيراني الشيعي من وضع قدميه في مياه البحر المتوسط.
ثم ألم يساهم هذا كله في إفقار لبنان وانهيار مجتمعه وماليته العامة واقتصاده؟ ومن الذي فعل ما فعله وأذاق اللبنانيين مرارته، منذ اغتيال رفيق الحريري وسواه من السياسيين والكتاب والصحافيين اللبنانيين، كي يتربع قائداً مرشداً، وآمراً ناهياً، في "جمهورية المقاومة"؟ وهو بعد تربعه هذا، ألم يكن الأقوى في توزيع المناصب والحصص والمغانم بين أقطاب وأعضاء عصابات الفساد في المنهبة اللبنانية؟
شراء جنرال الخديعة
ومَن الذي اشترى في كنيسة مار مخايل في مطلع العام العام 2006، ولاء جنرال الحروب الأخيرة في لبنان، مع رهطه المسيحي الأكبر، وضمّهما إلى خط المقاومة المزعومة والممانعة، وألحقهما بجمهورية الملالي الإسلامية الفارسية؟ وهذا لم يكن سوى مقدمة لتعطيل البلاد ومؤسساتها الدستورية حتى تعيين الجنرال ذاك رئيسا للجمهورية، ومنحه وصهره وعائلته صك إنشاء بيت أو نسل سياسي جديد في لبنان.
ألم يكن ما سُمّي "تفاهم مار مخايل" ذاك، كبرى صفقات المناهبة، تعويضاً لجنرال الخديعة المسيحية عن إقصاء جيش الأسد له عن قصر بعبدا الجمهوري، بعد تترُّسه به ومراهناته الحربية الدموية لحيازة الحظوة لدى حافظ الأسد، ليثبته رئيساً للجمهورية؟ وكان أن حُرم جنرال الخديعة المسيحية واللبنانية، كسائر معظم الزعماء المسيحيين من المشاركة في المناهبة التي أدارها رفيق الحريري برعاية الاحتلال الأسدي.
ورعى حزب الله، على الطريقة الأسدية، تكوينَ الجنرال رهطاً سياسياً سلطوياً - استبدله بمنشئي تياره النضالي السيادي والاستقلالي في غيابه - ومكّنه من المشاركة الواسعة في المناهبة، منذ أعاد اغتيال الحريري الجنرالَ "المقاوم" من المهجّر في باريس إلى بيروت، ليصير الوديعة المسيحية أو الدفرسوار المسيحي في جمهورية الفساد والتبعية لوكيل الولي الفقيه في لبنان.
مراسم الدفن
ربما كان إنقاذ لبنان ممكناً في ما مضى من السنين. لكن هذا الإنقاذ كان شرطه الشارط تنحية حزب الوديعة الأسدية في لبنان، وأمينها العام الذي شرع في إدارة المنهبة اللبنانية، والسيطرة عليها، وصولاً إلى جعل لبنان دولة فاشلة ومنبوذة عربياً ودولياً، ومكتفية بأن تكون درة تاج سلطنات الحرس الثوري الإيراني في المشرق.
أليس من البدائه، في هذه الحال، اعتبار حسن نصرالله سيّد مقتلة لبنان ودفنه وتجويع اللبنانيين وتشريدهم؟
فالعصابة المافيوية التي ما انفكت تعيث في لبنان نهباً وفساداً وإفقاراً، يتصدرها حزب الولي الفقيه الإيراني، منذ أن ورث الاحتلال الأسدي للبنان. وهو اليوم لا يريد تدخل صندوق النقد الدولي في لبنان، ليس بالتأكيد لأنه يشفق على اللبنانيين من الإجراءات التقشفية التي يفرضها الصندوق على اللبنانيين (فالشفقة والرحمة عبارات تم إلغاؤها ونفيها ومحوها من لغة العصابة وقاموسها)، وإنما رفضاً للعراقيل والقيود التي يضعها الصندوق على استمرار العصابة في نهب لبنان وتقاسم أسماله وأنقاضه وجثته ورماده.
فالأمم والأوطان قد تموت. على الرغم من أن التأريخ لموتها لا يُحتسب بالساعات والأيام، كموت بني البشر. ولبنان قد يبقى منه الإسم فحسب، أما المسمى - فكرةً واقتصاداً واجتماعاً وثقافةً ومخيلة وأفقاً محتملاً - فالأرجح أن انتفاضة تشرين الأول 2019 كانت، بكل الأسف والأسى، مثابة مراسم وداعه ودفنه.
لكن لبنان لم يمت كما تشيخ الكائنات وتذوي وتموت. لقد مات اغتصاباً وقتلاً ونهباً. وقد يصعب على كثيرين إحصاء من انهالوا عليه بطعناتهم المسمومة على امتداد العقود الماضية.
لكن هناك من يظل لأزمنة طويلة التجسيد الأصفى لمقتلة لبنان واغتصابه، التجسيد الأصفى لمغتصبيه وقتلته ونهّابيه المحليين والخارجيين: أسد سوريا، ومثيله الإيراني في لبنان.
يا لها من بطولة!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها