هذه كلها إنجازات كبيرة للثورة من دون شك، إنجازات على طريق الانتصار.
لكن يوم الجمعة 29 تشرين الثاني هو يوم تاريخي لسبب آخر: انتقلت الثورة إلى الفلوجة والرمادي وهيت والموصل وتكريت، أي المدن السنية التي بقيت تنظر بترقب وحذر إلى بغداد ومدن الجنوب الثائرة بأغلبيتها الشيعية، من دون أن تنخرط مباشرة في الثورة.
فمنذ شهرين بقيت الثورة العراقية مقتصرة تقريباً على المدن والمناطق الشيعية، وظل الشيعة العراقيون هم من يشكلون مادة هذه الثورة ويقودونها على نظام الفساد والتسلط الطائفي الذي أرساه نظام الولي الفقيه وأشرف على هندسته وتنظيم ميليشياته قاسم سليماني. حتى في بغداد، كانت أغلبية الثوار من الأوساط والأحياء الشيعية، بينما بقيت مشاركة الشباب من الأوساط السنية ضعيفة. غير أن الشباب الشيعة الذين تصدروا الثورة وشكلوا مادتها لم يرفعوا أبداً شعارات ومطالب طائفية أو فئوية، بل على العكس تماماً. فهؤلاء الشباب انتفضوا على الطائفية وثاروا رفضاً لها، وجعلوا من الثورة نفسها مساراً لإعادة تشكيل وطنية عراقية عابرة للطوائف - وطنية عراقية كان أسياد طهران قد ظنوا أنهم دفنوها إلى غير رجعة واستبدلوها بفتات طوائف يهندس أشلاءها وأسمالها قائد فيلق القدس.
هكذا كان الهتاف بل الصرخة: "نريد وطناً"، هو شعار الثورة الأساسي وهتافها. وكان هذا الشعار إيذاناً بمنعطف تاريخي كبير: خروج الشيعة العراقيين من أسر الطائفية والهيمنة الإيرانية، وبعثهم الوطنية العراقية وسعيهم لانتزاع العراق من براثن النظام الإيراني.
لكن، مع ذلك، بقيت الثورة العراقية، حتى الأمس، تبدو ثورة بجناح واحد تقريباً. فالسنّة العراقيون بقوا غالباً على هامش الثورة، وكان يبدو أنهم لم يخرجوا بعد من حال الإحباط والانكفاء. والحال أن قاسم سليماني كان قد بذل كل ما في وسعه لخلق شرخ عميق لا يلتئم بين السنة والشيعة، إذ عمل على تهميش السنة سياسياً واقتصاديا، بل وتهجير قسم منهم من المدن والمناطق. ثم وجد في "داعش" حجة وذريعة مثالية، فاستعمل الميليشيات الشيعية الطائفية التي أنشأها لممارسة العنف الطائفي والتنكيل بالجماعات السنية بوحشية شبيهة بالوحشية الأسدية في سوريا، فأغرقهم في لجة الخوف والمهانة والصمت.
هكذا، بدا جلياً أن السنّة كانوا في بداية الأمر على هامش الثورة التي أشعلتها بغداد ومناطق الجنوب الشيعي. وحتى عندما شرعت بعض المجموعات الشبابية السنية تشارك في اعتصام ساحة التحرير ببغداد، بقيت المدن والمناطق وكتل الجماعات السنية تراقب الثورة من بُعد، وهي في حال من الترقب والحذر. لكن، شيئاً فشيئاً، يبدو واضحا اليوم أن الثورة أدخلت الجماعات السنية، لا سيما الشباب، في مسار الخروج من حال الإحباط الانغلاق واليأس التي أصابتهم بعد التنكيل بهم بحجة الحرب على "داعش".
لقد وصل مسار الخروج والتحرر السنّي من ذلك الإحباط إلى منعطف أساسي عبّر اليوم عن نفسه على نحو فجائي وانفجاري في الموصل، والرمادي وهيت وتكريت، وفي الفلوجة خصوصاً.
وبينما كان فوز المنتخب الوطني العراقي لكرة القدم هذا المساء، مناسبة لخروج الشباب إلى الشوارع للاحتفاء بهذا الانتصار، استغلّ الشباب والأهالي هذه المناسبة وحولوها إلى مظاهرات احتجاج وتضامن عارمة مع الناصرية والنجف. والحق أن المظاهرات "السنية" هذا المساء كانت، لا سيما في الفلوجة، إلى الانتفاضة أقرب، واتخذت طابعاً انفجارياً صاخباً. فقد خرجت الفلوجة فجأة بعشرات الآلاف إلى الشوارع والساحات والجسور، ليس للتظاهر ضد النظام فحسب، ولكن أولاً، وقبل كل، شيء، للتضامن مع الناصرية والنجف وشهدائهما. بأعلى الصوت وبصخب وغضب عارم، علت صرخات شباب الفلوجة وأهاليها اليوم: "بالروح بالدم نفديك ذي قار! بالروح بالدم نفديك يا عراق؛ ورفعوا الرايات السوداء التي كتبوا عليها: "شهيدك شهيدي" و "أهالي الفلوجة يعلنون الحداد ويعزون أهلنا في النجف الأشرف والناصرية ومحافظات الجنوب". وكما تبين مقاطع الفيديو المسجلة مساء أمس، تبدو الفلوجة وكأنها قفزت فوراً، ودفعة واحدة، من حال الصمت والقهر المكبوت إلى الثورة. لكنها ثورة تنشد أولاً، وقبل كل شيء، الخروج من حال التفتت والتمزق إلى التلاقي والتضامن والتوحد في إطار الوطنية العراقية الناشئة.
الشعارات نفسها رددها الشباب، مساء الجمعة، في تكريت وهيت والموصل والرمادي، وأوقدوا الشموع على أرواح شهداء شباب النجف والناصرية وكل شهداء العراق. من جنوب العراق إلى شماله، صرخ العراقيون ملئ الحناجر بصوت واحد: نموت عشرة نموت ميّة، نحن صوت الناصرية. بانبعاث الوطنية العراقية، ها هو العراق يولد من جديد.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها