تجاوزت الخلوة الثالثة عشرة للقاء سيدة الجبل، مساء الخميس، نفسها في بعدين. البعد الأول تنظيمي، إذ أعلن النائب السابق فارس سعيد خلال الخلوة أنّ المأمول أن تنطلق منها نواة تأسيسية لتيار مدني وطني عابر للطوائف. ليعلن عند الختام أن الحاضرين هم أعضاء الهيئة التأسيسية لهذا التيار الذي سيعمل على تشكيل لجنة متابعة له لاحقاً (وهو ما جعل بعض الحضور يتخوف من تكرار تجارب سابقة لم تنجح متابعتها).
أما البعد الثاني لهذا التجاوز فكان طبيعة مداخلات الحضور وتفاعلاته. وهو حضور غالبيته من الوسط الأكاديمي والإعلامي ومن المهتمين بالشأن العام وقد خلا من السياسيين. فهذه المداخلات التي أعقبت تلاوة سعيد الوثيقة السياسية سرعان ما انحرفت عن السياسية المباشرة وتناولت قضايا الفساد في الدولة والهم الإقتصادي والمعيشي للبنانيين. ما يمكن أن يؤشّر جدياً إلى أننا أمام تحوّل تدريجي في كيفية تناول الموضوع السياسي في لبنان. إذ لم يعد ممكنا، أقلّه شعبياً وعلى مستوى الرأي العام، تناول السياسة كمجال قائم بذاته ومعزول عن سائر مجالات الحياة والمعيشة. كما يصعب شيئاً فشيئاً عرض السياسة اللبنانية كدينامية عصبها المجموعات الطائفية وتدافعها إلى السلطة ومكاسبها، بمعزل عن حقوق الأفراد المواطنين خارج طوائفهم، في تأمين عدالة اجتماعية ومعيشية.
ذلك لا يعني أنّ المداخلات تجاوزت الوثيقة السياسية التي طرحها سعيد، لكنّ الخلاصة التي يمكن استنتاجها من مجمل هذه المداخلات أنّ السياسة وحدها باتت عاجزة عن تفسير الأزمة اللبنانية، رغم أنّها مدخل ضروري لمقاربتها، أو قل إنّ تجاوزها في مثل هذه المقاربة مستحيل. كما أنّ هناك كبتاً سياسياً واجتماعياً يعبّر عن نفسه كلمّا سنحت فرصة لذلك. والغضب الذي يعبّر عنه في وسائل التواصل ليس كلّ الغضب. لكن إلى أين سيوصل هذا الغضب المكبوت في الصدور؟ هذا سؤال لا جواب عنه بعد.
لذلك، خرجت المداخلات عن إطار الوثيقة المعروضة ثمّ ما لبثت أن عادت إليها، وقد تدخّل سعيد غير مرّة لـ"تصويب" النقاش، وإن بدا سعيداً به.
قسّم سعيد الوثيقة قسمين: القسم الأول حمل عنوان: "في اللحظة الوطنية الراهنة"؛ أما القسم الثاني فتطرق إلى "الخصوصية المسيحية في إطار الحالة اللبنانية واللحظة الوطنية الراهنة". القسم الأول تناول بشكل أساسي التسوية السياسيّة الأخيرة والتي اعتُبرت "مفيدة" على الصعيد الوطني العام لأنها أوقفت بالدرحة الأولى انهيار الدولة المتسارع. وهي "مفيدة" لكل الأطراف الداخلية لأنها لم تُلغِ۫ أحداً، رغم انطوائها على أرجحية واضحة لمصلحة الفريق الإيراني– السوري". وفي مقاربة تسووية للجدال الحاصل بين من يقولون بمحلية هذه التسوية ومن يحمّلونها طابعاً اقليميا خارجياً، يقول الأمين العام السابق لقوى 14 آذار: "لا نعتقد بأنّ التسوية الأخيرة كانت بفعل مبادرة داخلية خالصة، ولا كانت إملاءً خارجياً، وإنما هي في منزلةٍ بين المنزلتين، خصوصاً أن البديل من هذه التسوية هو الفتنة الدموية ".
لكنّه رأى أنّ التسوية المشار إليها لا تبدو مستقرّة وثابتة، لـ"أنها مفتوحةٌ على تدافع داخلي مرير". وخلاصة القول في اللحظة الراهنة أن "جوهر الأزمة الوطنية اللبنانية يتلخّص بالآتي: نقص فادح في سيادة الدولة إلى حدّ الهيمنة الايرانية؛ انسحاب القوى السياسية الرئيسية إلى مربّعاتها المذهبية، ما يجعل تشكيل رافعة وطنية مشتركة أكثر صعوبة من ذي قبل". ويختم سعيد القسم الأول بتعداد خمس ثوابت تجسّد معنى لبنان، وفقه، وهي: "العيش المشترك أولاً؛ الدولة السيّدة المستقلّة ثانياً؛ وثيقة الوفاق الوطني في الطائف والدستور القائم ثالثاً؛ التزام الشرعة العالمية لحقوق الإنسان وقرارات الشرعية الدولية رابعاً؛ التزام نظام المصلحة العربية المشتركة في محيطه الإقليمي والدولي خامساً. لينطلق في القسم الثاني من كلمته من هذه المقومات الخمس "التي تشكّل أساس ما نسمّيه تيار الشرعية التاريخية في الوسط المسيحي اللبناني (...) منذ انطلاق مطلب الكيان في العام 1919، مروراً بالاستقلال الأول والميثاق الوطني 1943، ثم بالمساعي الجادّة لإقامة دولة، وصولاً إلى استقلال 2005.
وإذ يرى سعيد أن الكنيسة المارونية كانت في صلب هذا التيار في ريادته، يشير إلى أنّ التيار "كان في مغالبة دائمة مع "تيار الطائفية السياسية" الذي يقدّم الخاص على العام: الخاص الحزبي أو الشخصي الزعاماتي على العام المسيحي، والخاص المسيحي على العام اللبناني، على قاعدة "لبنان للمسيحيين، والمسيحيون لأحزاب بعينها، والأحزاب لأسر وأشخاص بعينهم". من هنا، يعود سعيد إلى الواقع الوطني العام فيجد أنّ قاعدة الاختزال هذه لم تبقَ مسيحية، بل تعمَّمت على سائر الطائفيات السياسية، و"نحن نرى الآن بعض الطائفيات السياسية تقول بلسانها وسلاحها وموازين القوى العابرة: "لبنان لطائفتنا، وطائفتنا لحزبنا، وحزبُنا لقائده الأوحد ومرشده الأعلى"، في إشارة طبعاً إلى حزب الله. ثم ما لبث أن رجع إلى الواقع المسيحي، فرأى أن "الضياع السياسي إنما يعود إلى انحرافٍ في النظرة إلى الذات، والتحوُّل عن مفهوم "الجماعة المتفاعلة مع محيطها" إلى مفهوم "الأقلية الخائفة". ليؤكد سعيد في الختام التزام تيار الشرعية التاريخية في الوسط المسيحي، راجياً أن "تسهم هذه الخلوة في تظهير الخيار اللبناني مقابل ما نرى من انحرافات".
المداخلات التي تلت كلمة سعيد وافقت على مضمون الوثيقة هذه وأصحابها كانوا في جوّها، إذ سبق لهم أن وقّعوا عريضة تتضمن "خطّها البياني". لكنّ بعض هذه المداخلات وجد خطاب الوثيقة "تقليدياً"، كالبروفيسور أنطوان قربان الذي رأى أنّ "الأولوية يجب أن تكون للفرد وليس للجماعات. فالعيش المشترك ليس فحسب بين مسيحيين ومسلمين وإنما بين مواطنين أفراد مهضومة حقوقهم"، مطالباً بمعارضة سياسية لا ثقافية. وقد كان سبقه إلى الحديث القيادي البعثي السابق فايز القزي الذي رأى أن المطلوب الذهاب أبعد في توصيف الأزمة اللبنانية التي هي من طبيعة بنيوية كيانية.
وتحدث الزميل حنا صالح عن ضرورة الالتفات إلى مطالب الناس وتضمين الخطاب السياسي بعداً اقتصادياً واجتماعياً، لا كما فعلت 14 آذار بتغييب هذا البعد في حركتها منذ نشأتها. وبعد صالح كرّت سبحة المداخلات التي تتناول الوضع الاقتصادي والمعيشي ومكافحة الفساد. فتحدث الدكتور توفيق كسبار الموظف السابق في البنك الدولي عن الشوائب والفساد في ملف النفط كما عن خطورة الهندسة المالية التي أجراها البنك المركزي أخيراً. وإذ أكدّ كسبار أن المشكلات الاقتصادية ومشكلات الفساد مرتبطة بالسياسة، أشار إلى أنّ انهيار البلد هذه المرة قد يكون سببه اقتصادياً لا سياسياً. فـ"الخطر الإقتصادي الداهم قد يدخل من الشباك في أي لحظة ويقلب الأوضاع بصورة دراماتيكية". وقد عقّب الخبير في الشؤون المالية كريم سعيد على مداخلة كسبار قائلاً إنّ "الطبقة السياسية موجودة بفضل أموالها، فإذا نبضت أموالها في المصرف نبض رصيدها في الشارع".
وتحدثت الأكاديمية زينة منصور عن "ضرورة مقارعة الإقطاع الريفي الذي تحوّل إلى أحزاب تتعامل مع الناس باحتكار وفوقية، معتبرة أن الخلل في سلوك الطائفيات السياسية أوصلنا إلى الوضع الشاذ الذي نحن فيه من هيمنة فريق مسلح على الحياة السياسية. ودعت الأكاديمية منى فياض إلى تحرير لبنان من الهيمنة الإيرانية بوسائل سلمية، فـ"بعدما كان الواقع العربي يربك لبنان أصبح لبنان يربك الواقع العربي بسبب حركة حزب الله". وذكّرت بتجربة الحراك المُجهضة، "حيث قام الناس كأفراد، فردّوا عليهم كجماعات".
ولعلّ المداخلة الأكثر تعبيراً عن معضلة المواءمة بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات التي أبرزتها الخلوة، كانت من قبل "المواطن"- كما عرّف عن نفسه- بطرس معوض. معوّض قال إنه لا يخشى من عدم قدرة ابنه على العيش مع المسلمين والتفاعل معهم وإنما من اضطراره إلى الذهاب إلى الزعيم الطائفي لتأمين وظيفة لولده.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها