ستغادر رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبان لبنان سعيدة، بل مغتبطة بنتائج زيارتها بيروت. لم يسبق أن زارت المرشحة إلى الرئاسة الفرنسية بلداً أقيم لها فيه استقبال كالذي لقيته في لبنان. والأرجح أنها لن تلقى استقبالاً مماثلاً في أي من البلدان التي ستزورها لاحقاً. فمرشحة أقصى اليمين الفرنسي حققت في بيروت هدفها بلقاء أحد رؤساء الدول. وهو هدف سعت إليه منذ توليها رئاسة الجبهة الوطنية. وقد أبرزت معظم الصحف الفرنسية هذا الاستقبال بوصفه إنجازاً للوبان التي لم تلتق طوال مسيرتها السياسية بقيادات خارجية إلا نادراً. كلقائها برئيس الوزراء المصري ‘براهيم محلب في العام 2015، ووزير الخارجية البولوني في كانون الثاني 2017. فيما لم تنجح في لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقب انتخابه. ويقال إنّها انتظرته طويلاً في مقهى بـ"ترامب تاور"، لعلّها تلتقيه وهو خارج من مبناه أو داخل إليه، لكنّ أملها هذا خاب في النهاية. كذلك رفضت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل لقاءها.
استقبال لوبان من جانب الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري ليس الأمر الوحيد الذي ستحفظه لوبان من زيارتها وستفاخر به، ولا هو الأمر الوحيد الذي سيُذكر عن هذه الزيارة. رفض لوبان وضع الحجاب للقاء المفتي دريان لن يقّل أهمية بالنسبة إليها من لقاء عون والحريري، بل قد يفوق لقاءهما أهمية في نظرها لأنه جزء من الجدل الانتخابي الفرنسي حول الإسلام و"انسجامه مع قيم الجمهورية". علماً أنّها رأت أخيراً أنّ "الإسلام ينسجم مع الجمهورية"، بينما وصفت في العام 2010 المسلمين الذين يصلون في الشارع بـ"المحتلين".
لكن، يبقى أنّ هاتين المسألتين، أي استقبال عون والحريري للوبان، ورفضها وضع الحجاب للقاء المفتي دريان، هما مسألتان فرنسيتان تندرجان ضمن السباق الرئاسي الفرنسي وأسئلته وإشكالياته أكثر منهما مسألتين لبنانيتين. وإن خلق رفضها وضع الحجاب سجالاً لبنانياً أخذ طابعاً إسلامياً- مسيحياً. لكنّه يبقى سجالاً عابراً بطبيعة الحال، ولا يعكس لوحده دلالات زيارة لوبان لبنان وجدول مواعيدها والمواقف التي أطلقتها من "بلاد الأرز".
لقد شهدت زيارة لوبان استعادات من تاريخ الحرب الأهلية في العام 1975 وانقساماتها. فلوبان وفور وصلوها إلى بيروت ذكرت بهذه الحرب "التي أريقت فيها دماؤنا معاً". وذلك في إشارة إلى مقاتلين من الجبهة الوطنية قاتلوا إلى جانب "الكتائب" و"القوات اللبنانية" في الحرب اللبنانية. كحارسها الشخصي تييري ليجييه، وتيبو دو لا توكناييه أحد مستشاري حملتها الانتخابية الذي شارك في "حرب الجبل"، ودافعه لهذه المشاركة كان "الدفاع عن قيم الغرب في مواجهة القيم الثورية الإسلامية"، كما يقول لـ"لوموند".
هذه الإستعادة لزمن الحرب التي رافقت زيارة لوبان ولقاءاتها اللبنانية لم تعكس "نوستالجيا" مسيحية إلى زمن الحرب ووضعية المسيحيين سياسياً وعسكرياً خلالها فحسب، (وهي نوستالجيا موجودة إلى هذا الحد أو ذاك لدى الجماعات اللبنانية الأخرى). إنّما عكست أيضاً الخلل في نظرة المسيحيين إلى أنفسهم وإلى محيطهم وإلى العالم وقضاياه الراهنة. فالتعاطي "المسيحي" مع زيارة لوبان كان كما لو أنّها تمثّل فرنسا "الحقيقية" التي "يحبها" المسيحييون، أمّ الكاثوليكية، أو بتعبير أدق فرنسا ما قبل الثورة. بهذا المعنى كانت لوبان المرشحة الفرنسية "الأصيلة" بخلاف المرشحين الآخرين الذين لا يمثلون فرنسا كما يراها معظم مسيحيي لبنان. كما أنّ خطاب لوبان عن مسيحيي الشرق يلاقي هذا الخلل المسيحي اللبناني في فهم فرنسا الراهنة وإشكالياتها.
طبعاً، ليس القصد شيطنة العقل الجمعي المسيحي والقول إنّ كل ارتيابات المسيحيين اللبنانيين ومخاوفهم غير مبرّرة، ولاسيما في ظل الفوضى التي تجتاح المحيط اللبناني. لكن في الوقت نفسه، هناك شطط في تقدير هذه المخاوف وأسبابها، كالربط مثلاً بين التطرف الإسلامي وهجرة المسيحيين. وهو ما ذهبت إليه لوبان في وزارة الخارجية. مع العلم أنّ هجرة كثيرين من المسيحيين اللبنانيين ليست متصلة بصعود التطرف الإسلامي الذي لم يشكّل بعد تحدياً لبنانياً جدياً، إنما كانت لأسباب أخرى تبعاً لكل حقبة زمنية، أبرزها السبب الإقتصادي والمعيشي. كذلك، لم يقدّم المسؤولون المسيحيون الذين التقتهم لوبان أي تصور مستنبط من التجربة اللبنانية لمسألة "العيش معاً" الإسلامي- المسيحي، وهو ما يعكس إلى حد ما الخلل في هذا "العيش معاً" في لبنان.
في المحصلة، أسهمت زيارة لوبان في تأكيد وقائع لبنانية يحاول "الخطاب الرسمي" تمويهها والتغطية عليها. وهذا ما يمكن عدّه أمراً إيجابياً في زيارة لوبان تلك الضيفة الإشكالية التي كانت حركتها الحدث الأبرز في بيروت خلال اليومين الماضيين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها