من مفارقات الوضعية السياسية اللبنانية هذه الأيام أنّ التسوية الرئاسية التي أنهت فراغاً في رئاسة الجمهورية دام أكثر من سنتين ونصف السنة، وبالتالي كان الأمل أن تضع حداً لحال "عدم اليقين" التي كانت سائدة في لبنان طيلة هذه المدّة، عادت هي نفسها وغرقت في حال من "عدم اليقين".
بكلمات أخرى لم تخرج التسوية الرئاسية لبنان واللبنانيين من دائرة الخوف على المستقبل وعدم القدرة على تلمس آفاقٍ واضحة لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع اللبنانية في المستقبل القريب والبعيد.
الدقة تقتضي القول إنّ حال "عدم اليقين" هذه لا يتحمل المسؤولية الكاملة عنها أركان هذه التسوية، سواء أكان الرئيس ميشال عون أو الرئيس سعد الحريري أو سائر داعمي هذه التسوية من القوى السياسية. هؤلاء حتماً بالغوا، وإن بتفاوت في ما بينهم، في تقدير قدرة هذه التسوية على نقل لبنان من حال إلى حال. مصلحتهم السياسية كانت تقتضي في لحظة معينة هذه المبالغة ولو كانوا مدركين شططها وعدم مطابقتها الواقع في طبيعة الحال. لكنّ الإفراط في الإيجابية في ظل ظروف بالغة التعقيد، كتلك التي يمر بها لبنان والمنطقة، قد يكون أكثر الأخطاء السياسية فداحة.
لقد أتت هذه التسوية في لحظة إقليمية ودولية شديدة الضبابية والإلتباس، ولاسيّما أنّها تزامنت مع الانتخابات الرئاسية الأميركية التي كان العالم بأسره، بما فيه لبنان، ينتظر نتائجها للبناء عليها. مع ذلك، لم يتريث أيٌ من أركان التسوية في إطلاق توقعاته المتفائلة جداً لمرحلة ما بعد انتخاب عون. ففي لحظة العالم كلّه يتغيّر ويدخل في مرحلة انتقالية لا يعرف أمدها ولا مآلاتها، كان هناك إيحاء متمادٍ من أركان الحكم بأن لبنان سائر نحو الوضوح والاستقرار. وهذا ما يجب أن يحاسب عليه هؤلاء أولاً قبل محاسبتهم على التعثر المستمر في تأمين ما وعدوا اللبنانيين به من قانون انتخابي وموازنة وإصلاح إلى آخر المعزوفة. فعدم تمكن أركان الحكم من النهوض بالوضع السياسي والاقتصادي اللبناني في فترة لا تزيد كثيراً عن المئة يوم بعد سنوات من التردي والتقهقر على مختلف مستويات الحياة في لبنان، وفي ظلّ أوضاع دولية واقليمية ملتبسة، أمر قد يكون مفهوماً. أمّا المبالغة في الدعاية السياسية للتسوية وإيهام الناس بأنّ ما ينتظرهم هائل في إيجابيته وتفاؤله، في وقت يعلم الجميع صعوبة الأوضاع اللبنانية، فهذا سقوط أخلاقي لأنه يفاقم شعور غالبية اللبنانيين بالخوف والغبن.
طبعاً، لا يمكن القول بالمنطق السياسي بل العقلي عموماً إنّ الفراغ في رئاسة الجمهورية كان أفضل من ملئه وفق التسوية المعروفة. فبغضّ النظر عن متانة هذه التسوية وانسجام أطرافها في ما بينهم، إلّا أنّ أي إجراء يضع حداً لحالة سياسية ودستورية شاذة هو إجراء حميد ومطلوب. إلا أنّه، بعد مرور نحو أربعة أشهر على بدء عهد عون- الحريري، يصعب العثور على مؤشرات تدلّ على أنّ الوضعية السياسية والاقتصادية في لبنان آيلة إلى التحسّن والتعافي بحد مقبول. وهذا ما يفترض أن يُشعر أركان الحكم بالقلق.
والحال هذه يصبح مستغرباً أن تكمل قوى رئيسية في الحكم معاركها السياسيّة دونما أي شعور بالذنب والخسارة بسبب تضليل الرأي العام بشأن أفق المرحلة الجديدة في لبنان. هذا ما يحصل على هامش المباحثات الجارية لإقرار قانون جديد للانتخابات والتي تنتقل من تعثر إلى تعثر من دون أن يلوح في الأفق بصيص أمل في إمكان وضع قانون انتخابي جديد في وقت قريب.
ولعلّ موضوع الموازنة والريبة التي خلّفها في الأوساط الشعبية من زيادة ضرائب لا يقابلها أي تحسنّ في مستوى العيشة وفي تأمين الخدمات الرئيسية للبنانيين- بل على العكس يتوقّع أن يزداد العجز والمديونية- هو أكثر دلالة من موضوع قانون الانتخاب على تعقيدات المرحلة المقبلة وخطورتها. ما يتطلب حداً أدنى من التواضع والروية من جانب أركان الحكم عوض الاستمرار في الدعاية السياسية والمكابرة على الحقائق المرّة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها