لا يتوقّع من قانون انتخابي تتفق عليه مجموعة من القوى السياسية تشكّل ركيزة الحكم إلّا أن يكون على مقاس المصالح السياسية والانتخابية لهذه القوى نفسها. أي رهان إصلاحي أو تغييري في مسألة قانون الانتخاب وفق المعطيات الراهنة، سواء من ناحية الجهة الواضعة لهذا القانون أو وفقاً للّحظة السياسية محلياً وإقليمياً لا يعدو كونه وهماً خالصاً. الإصلاح الوحيد الذي يمكن أن يأتي به قانون انتخابي جديد هو إسقاط القانون النافذ الموضوع منذ نحو ستين عاماً إذا ما اعتبرنا أنّ أخذ العامل الزمني- مع كل ما طرأ من تغيّرات عل المجتمع اللبناني- في الحسبان أساسي في أي مسار لوضع قانون انتخابي جديد. عدا ذلك فإنّ الإصلاح الذي تروج له "الخلية الحاكمة" هو إصلاح مموه وتضليلي ولا أساس له إلّا في أدبيات الدعاية السياسية لأركان هذه الخلية. والدليل أنّ مراجعة تسريبات القانون قيد النقاش في "الاجتماع الرباعي" تعكس المحاصصة النيابية بين القوى النافذة، وهذا وإن كان يؤمن استقراراً سياسياً بين هذه القوى إلّا أنّه لا يعد إصلاحاً انتخابياً يفتح الباب أمام تطوّر المجتمع والسياسة اللبنانيين.
المشلكة الأساسية إذاً في قضية القانون الانتخابي هي أنّ الجهة الواضعة له هي القوى السياسية الحاكمة، لا سلطة مستقلة تتمتع بهامش واسع لتحديد طبيعة القانون الانتخابي وفق معايير إصلاحية حقيقية. هذه نقطة قوّة لقوى الحكم تجعلها قادرة على التحكّم إلى حدّ بعيد باللعبة الانتخابية ونتائجها، ما يجعل إمكانية مواجهتها صعبة جداً لكنّها ليست مستحيلة. إذ إن نتائج الانتخابات ولو وفق قانون مفصّل مسبقاً على قياس أركان الخلية الحاكمة لا يمكن أن تكون محسومة سلفاً في حال وجدت معارضة حقيقية منظمّة بالحد الأدنى لخوض الانتخابات بوجه القوى الحاكمة لاسيّما أنّ الناس لم تشعر بفرق أساسي في حياتها ومعيشتها منذ إنجاز التسوية الرئاسية.
في الأيّام القليلة الماضية ظهرت أصوات سياسية و"مدنية" معترضة على القانون المقترح من "الخلية الرباعية"- وإن لم ينجز بعد لكنّ منطلقاته السياسية والانتخابية أصبحت واضحة- لكنّها أصوات متفرقة لا تحملها قوى سياسية أو مدنية قادرة على إحداث فرق في المشهد السياسي والانتخابي. وإذا كانت غالبية القوى السياسية المعارضة تتريث في إعلان موقفها من التسوية الانتخابية المرتقبة لعلّها تجد مطرحاً لها فيها، فإنّ المستغرب خفوت المعارضة المدنية التي طالبت في وقت سابق ومازالت بانتخابات نيابية على أساس النسبية، وكأنّ حركتها مقتصرة على المطالبة باعتماد النسبية في القانون الانتخابي وهي ليست معنية بمعارضة أي قانون مفصّل على قياس القوى الحاكمة. وهذا يضعف أكثر فاكثر الثقة بهذه "القوى البديلة" التي يبدو أنّها انسحبت باكراً من معركة القانون الانتخابي، بعدما أضاعت فرصة ثمينة أتاحتها لها أزمة النفايات وفشل السلطة في معالجتها صيف العام 2015.
علماً بأنّ اللحظة السياسية مؤاتية جداً لخوض المعارضة في وجه الحكم الجديد الذي يعيد انتاج المحاصصة الطائفية في النظام وفق قواعد جديدة؛ بدءاً من انتخابات رئاسة الجمهورية التي لم تكن لتتم لولا انتخاب الشخصية الأكثر تمثيلاً لدى المسيحيين عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل مع الطوائف الأخرى في ما خص اختيار رئيس الوزراء أو رئيس المجلس النيابي. مروراً بالتشكيلة الحكومية التي تقاسمت وزاراتها القوى الأقوى في طوائفها. وصولاً إلى قانون الانتخابات ومعياره "الإصلاحي" بالنسبة إلى قوى الحكم إيصال نواب كل طائفة بالعدد الأقصى من أصوات "أبنائها". وهذا معيار إشكالي بامتياز، فهو من جهة يؤمن الحقوق السياسية للطوائف التي كانت تشكو من التهميش والاستيلاء على تمثيلها النيابي، لكنّه في المقابل يجعل مسألة حفظ حقوق الطوائف الدينامية الرئيسية للسياسة اللبنانية. وهذا لن يكون في النهاية إلّا على حساب الحقوق الفردية للبنانيين سواء لجهة حرياتهم ومساواتهم أمام القانون أو لجهة الخدمات الواجب على الدولة تأمينها لهم من ماء وكهرباء إلخ.. وهو ما يمكن الاستدلال عليه من طبيعة الخطاب السياسي الراهن الذي لا يولي أي اهتمام لقضايا خدماتية أو لقضايا سيادية تتصل بسيادة الدولة على كامل أراضيها- مع ما لذلك من تأثير على المساواة بين المواطنين- إنمّا جلّ تركيزه على مسألة الحقوق السياسية للطوائف. وهذا يعطي في النهاية صورة أولية عن طبيعة الانتخابات المقبلة التي لن يتنافس فيها مشروعان سياسيان أو أكثر على كامل المساحة اللبنانية كما في انتخابات 2009، رغم التباساتها، إنما سنشهد انتخابات "لامركزية" داخل كل طائفة.. وهذا منحى للسياسة اللبنانية قد ينقلب على أصحابه في حال فاقم الاختلال بين حقوق الطوائف وحقوق الأفراد. لكنّ مواجهته تبدأ من الانتخابات المقبلة، فمن سيقدم عليها؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها