الخميس 2024/07/25

آخر تحديث: 00:43 (بيروت)

ماكرون واليَسار الفائز: لا تعايُش

الخميس 2024/07/25
ماكرون واليَسار الفائز: لا تعايُش
ماكرون خلال زيارة تفقدية للقرية الأولمبية في باريس (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بعد حصول "الجبهة الشعبية الجديدة"، التحالف الذي يضم أحزاب اليسار المتشدد والوسطي إضافة إلى بعض الشخصيات اليسارية، على المرتبة الأولى في انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية من دون الحصول على الأغلبية المطلقة، اتجهت الأنظار الى احتمال قيام رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون بتكليف أحد رموزها بتشكيل حكومة تتعايش مع الرئاسة التي تدّعي الوسطية على الرغم من توجهها اليميني الواضح، اقتصادياً على أقل تقدير. فقد جرى العرف في الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي تأسست سنة 1958، والقائمة على نظام نصف رئاسي، على أن يُكلّف رئيس الجمهورية الحزب الحاصل على أعلى نسبة في الانتخابات التشريعية بتشكيل حكومة تتعايش مع رئيس الجمهورية إن لم تكن من توجهه السياسي، ويتعايش هو بالتالي معها. وقد سبق وعرفت فرنسا هذه الممارسة ثلاث مرات، بدءًا من سنة 1986 وآخرها سنة 1997.

ويفرض التعايش على الطرفين تقاسم المهام والملفات. فرئيس الجمهورية يحتفظ بملف السياسة الخارجية وملف السياسة الدفاعية، في حين يحتفظ رئيس الحكومة بملف السياسات الداخلية والاقتصادية للبلاد. ويفرض التعايش تعاوناً إيجابياص بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لما فيه صالح البلاد والعباد. كما يسعى الطرفان الى إنجاح أداء المؤسسات، على الرغم من تباعدهما السياسي و/أو الأيديولوجي. وهذا التوجه يفترض أن يتم التفاوض بين الطرفين على مختلف القرارات والوصول الى توافقات لتجنب جمود عمل المؤسسات.

وفي ظل التعايش، يتعاظم دور الجمعية الوطنية ويميل النظام، ولو في الأداء فقط، إلى صيغة النظام البرلماني الكامل. يترافق هذا التوجه مع تعزيز واضح لدور رئيس الحكومة. ومن أبرز ميزات هذا التعايش هو تقريب وجهات النظر بين مؤسسة الرئاسة، ومؤسسة رئاسة الحكومة، وما يحمله ذلك من استقرار في العملية السياسية. وفي المقابل، من أبرز أخطار هذا التعايش، هو اندلاع الخلافات المستمرة بين المؤسستين ورموزهما، مما يمكن له أن يؤدي إلى تعقيد عمل المؤسسات والإضرار بالصالح العام.

وكما ذُكر أعلاه، فقد عرفت فرنسا التعايش للمرة الأولى بين العامين 1986 و1988، في عهد الرئيس فرانسوا ميتران (1981 ـ 1995) عندما تصدر الحزب الديغولي اليميني البرلمان، وقام ميتران الاشتراكي بتكليف قائده جاك شيراك بتشكيل حكومة ذات توجه يميني، فأجرى إصلاحات اقتصادية ليبرالية وخصخص كبريات الشركات والمصارف. ثم قام التعايش الثاني بين العامين 1993 و1995 بين ميتران نفسه، وإدوار بالادور من الحزب الديغولي اليميني. وتميّزت هذه الفترة بسياسة اقتصادية حذرة، وباستقرار سياسي، رغم الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين الطرفين. أما التعايش الثالث والأخير، فكان بين العامين 1997 و2002، بين الرئيس الديغولي اليميني جاك شيراك (1995 ـ 2007)، والاشتراكي ليونيل جوسبان الذي تم تكليفه بتشكيل الحكومة. وقد عرفت هذه المرحلة إصلاحات اقتصادية مهمة، كان منها خفض عدد ساعات العمل الى 35 ساعة أسبوعياً في حدها الأقصى. كما عرفت فرنسا إصلاحات في السياسة الاجتماعية تتوافق مع الرؤية الاشتراكية.

ومنذ صدور نتائج الانتخابات التشريعية يوم 7 تموز/يوليو الماضي، وفوز "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية بالمرتبة الأولى، بدأ الحديث، وبشكل شبه تلقائي، عن قرب تكليفها بتشكيل الحكومة. وعلى الرغم من أن نجاح اليسار لم يكن كاسحاً، ولم يحصل على الغالبية المطلقة في الجمعية الجديدة، وعلى الرغم من تقارب أعداد ممثلي الكتل النيابية بين يسار ويمين معتدل ويمين متطرف، إلا أن الفرنسيين اعتقدوا بأن نظام التعايش سيفرض نفسه على المشهد السياسي سنة كاملة على الأقل، قبل أن يُتيح الدستور لرئيس الجمهورية أن يقوم بحل الجمعية الوطنية من جديد والدعوة الى انتخابات مبكرة. وبدأت مفاوضات قوى اليسار لاختيار اسم توافقي يتم تقديمه الى رئيس الجمهورية. مفاوضات عصيبة شهدت خلافات واضحة وتصريحات غير مطمئنة تكاد تّحذّر من قرب انفجار التحالف وضياع العنب والناطور.

وبرزت الى العلن صعوبة التوفيق بين يسار متشدد ذي إدارة مركزية صارمة، ممثلاً في حزب "فرنسا الأبية"، وبين يسار اشتراكي ليس له من الاشتراكية سوى العنوان. وتبين للمتابعين بأن اتحادهما في "جبهة شعبية" لخوض الانتخابات كان ظرفاً استثنائياً فرضه الرعب الذي وقع نتيجة تصاعد هيمنة اليمين المتطرف على استطلاعات الرأي عشية الانتخابات. خلال هذه الفترة من الجدل البيزنطي والانتظار المر الذي عانت منه القواعد، حذّر مراقبون من خطورة التأخير ومن إمكانية أن يعتمد ماكرون على نتائج انتخابات رئاسة الجمعية الوطنية التي آلت إلى ممثلته الأسبوع الماضي.

وبعد مرور أكثر من أسبوعين على صدور نتائج الانتخابات، اختار اليسار مرشحته المنتظرة. وجاء هذا الاختيار المتأخر قبل ساعة من قيام الرئيس ماكرون بحديث متلفز الثلاثاء. وقد كان حديثه الأول بعد إصدار نتائج الانتخابات التشريعية، وخصّصه نظرياً للحديث عن استقبال فرنسا بعد أيام لدورة العاب الأولمبية. وفي هذا الحديث، رفض ماكرون رفضاً قاطعاً القبول بمرشحة اليسار للمرة الأولى في الجمهورية الخامسة، متحججاً بتقارب أعداد ممثلي الكتل البرلمانية، ومستنداً أساساً إلى نتائج انتخابات رئاسة الجمعية الوطنية التي أتت لصالحه. وفي الحقيقة، فهو يراهن على تقارب محتمل بين نوابه ونوّاب اليمين المعتدل، لتشكيل غالبية يتم تكليف أحد رموزها بتشكيل الحكومة. وهذا ما توقّعه معظم المراقبين خصوصًا مع التأخير غير المبرر في اختيار اليسار لمرشحه.

تأخّر غير مبرر لليسار أدى إلى تذرّع غير ديموقراطي لماكرون. وستحمل الأشهر المقبلة إمكانية كبرى لانعدام الاستقرار يمكن له أن يتحول الى اضطرابات احتجاجية، فرنسا في غنى عنها.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها