الإثنين 2024/05/20

آخر تحديث: 07:55 (بيروت)

ضيق الافق الفرنسي:كاليدونيا نموذجاً

الإثنين 2024/05/20
ضيق الافق الفرنسي:كاليدونيا نموذجاً
increase حجم الخط decrease

على بعد 17 ألف كم عن العاصمة الفرنسية باريس، يقع أرخبيل كاليدونيا الجديدة "الفرنسي" والذي بدأ استعماره منذ سنة 1853. وحسب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، للشعب الذي تم استعماره حق تقرير المصير. وهذا ما دفع شعب الكاناك والمكونات الأخرى الخليطة من البرّ القريب صينيًا كان أم هنديًا، لتكوين مجموعة بشرية ما فتئت تُطالب المستعمر الفرنسي باستقلالها بدايةً أو بمنحها وضعًا إقليميًا محدّدًا يجعلها تحتفظ بهويتها الثقافية والوطنية. ولم يتوقف المستعمر الفرنسي طوال عقود عن السعي لتغيير التركيبة الديموغرافية للأرخبيل كما محاولة تغيير التكوين الثقافي والاثني لهذه الجزر. ولقد انتقل التعريف الفرنسي لأراضي الأرخبيل سنة 1946 من "مستعمرة فرنسية" إلى "أراضي فرنسية ما وراء البحار". ولقد استطاعت باريس المحافظة نسبيًا على الهدوء العام طول سنوات، وذلك من خلال تعزيز التنمية الاقتصادية وتطوير البنى التحتية وفرّنسة الثقافة مقابل المحافظة عل الثقافة المحلية كعنصر جذبٍ سياحي غرائبي ليس إلا. وبتواتر ضئيل نسبيًا بدأ مع بداية الحقبة الاستعمارية، سرعان ما ازداد بشدة، قام المُستَعمِر بتشجيع الفرنسيين على الانتقال للعيش في هذه القطعة من الجنة على الأرض. فبالإضافة إلى جمال الطبيعة واعتدال المناخ، يتمتع ساكنوها ممن يحضرون من فرنسا بالضرائب المنخفضة وبالرواتب المرتفعة.

في ثمانينات القرن الماضي، تحرّك الشعب الكاناكي للمطالبة بحقوقه المشروعة التي ينصّ عليها القانون الدولي. ونظَّمَت باريس استفتاءً في أيلول سنة 1987 قاطعه السكان الأصليون مما نجم عنه موافقة 98 بالمئة من المستفتين على البقاء كجزء من فرنسا. ولقد جرت مواجهات عنيفة خلال شهري نيسان وأيار من سنة 1988 أدت لسقوط عدد من الضحايا من الشعب الأصلي ومن قوات الأمن الفرنسية. ولقد دفع هذا الوضع الحكومة الاشتراكية في ظل رئاسة فرانسوا ميتران (1916 ـ 1996)، والتي كان يترأسها ميشيل روكار (1930 ـ 2016)، حينذاك إلى فتح باب المفاوضات مع ممثلين عن المطالبين بالاستقلال إضافة على ممثلين عن السكان الجدد. ولاعترافه بفداحة الموضوع، اعتمد الرئيس ميتران على رئيس وزرائه المُحنّك روكار من أجل التوصّل إلى اتفاق يضع الأسس الصحيحة لعملية انهاء الاستعمار بشكل تدريجي معتمدًا في ذلك على مبدأ استشارة السكان عبر تنظيم استفتاءات بفترات متباعدة نسبيًا وصولاً إلى مرحلة تحديد مصير الأرخبيل كجزء من الأراضي الفرنسية بشكل نهائي أو منحه استقلاله التام. وقد نجم عن هذه المفاوضات اتفاقية تحمل اسم مقر رئاسة الحكومة في باريس "ماتينيون" في السنة ذاتها. وقد تابع الاشتراكي ليونيل جوسبان المسار التفاوضي بعد تعزيز استقلالية الإدارات الحكومية المحلية عن العاصمة باريس، بتوقيع اتفاقية تحمل اسم العاصمة "نومييا" سنة 1998. ولقد جرى من خلالها الاتفاق على تجميد الجسم الانتخابي بحيث لا يمكن تعديل نسب المكونات الاثنية مع تقدم السنين لتضاعف الهجرة من فرنسا مما يؤثّر على نتائج أي استفتاء قادم لإقرار الاستقلال او عدمه.

نتيجة ضعف الخبرة السياسية والتعنّت الذي تتميّز به الحكومة الحالية في باريس، تقدّم نوّاب حزب النهضة الرئاسي بمشروع قانون يُلغي التجميد الانتخابي وبالتالي يسمح لكل من يقطن الأرخبيل من الفرنسين بالمشاركة في الاستفتاء المقبل، حيث لا تتجاوز نسبة السكان الأصليين 41 بالمئة من مجموع السكان.  وقد تم إقرار هذا القانون عبر تصويت النواب الفرنسيين في باريس على مصير ومستقبل الأرخبيل. إضافة إلى هذا التعنّت المركزي التسلطي، تم تسليم الملف الى وزير الداخلية وكأنه ملفٌ أمني لا يعني رئاسة الحكومة. وتعزيزًا لصورته المستدامة منذ توليه المنصب، فقد أطلق الوزير تصريحات تحدٍ وتهديد لم تساهم إلا في تأجيج الغضب المحلي في الأرخبيل والذي انفجر مؤخّرًا مسفرًا عن خروج بقاع عدة من الجزر عن سيطرة السلطة المركزية، وسقوط عدد من الضحايا، والاضطرار لإرسال تعزيزات أمنية ضخمة من باريس وإقرار حالة الطوارئ محليًا. 

مزيجٌ من الاقصاء الاقتصادي والتراجع الخدمي والاستغلال المركزي يُضاف إلى ذلك كله، تأثير قوى خارجية تسعى إلى ضعضعة الموقف الفرنسي في العديد من الملفات الدولية، ومنها روسيا والصين، وصولاً إلى أذربيجان التي تنتقم من موقف فرنسا المؤيد لأرمينيا في الصراع المنتهي على إقليم كاراباخ. في هذا المناخ، لا يُسألُ المستفيد ـ إقليمياً كان أم محلياً ـ عن دوره "الخبيث"، بل يُسأل بالأحرى عن امتناعه عن القيام بهذا الدور إن حصل. والوحيد المسؤول عمّا آلت إليه الأمور هو منظومة سياسية محدودة الأفق تُدير شؤون البلاد ومستعمراتها من دون استراتيجية واضحة. وحيث يتقدمها أشخاص يعتبرون أنفسهم فطاحل السياسة والاقتصاد عمومًا، مما يؤثّر سلبيًا على الكثير من الملفات الداخلية والخارجية، على الرغم من وجود مئات الكتب والدراسات العلمية الجدية التي توضّح تعقيدات هذه الملفات. منظومة تشغل أدواتها بمسألة عباءة تلميذة أو لحية موظف سعيًا لتشتيت الانتباه بأمور سطحية نسبيًا عن الملفات المستعصية على عديمي الخبرة في جنباتها.

الأرخبيل مهم استراتيجيًا بالنسبة للدولة الفرنسية لوقوعه في منطقة حسّاسة دوليًا ولاحتواء أراضيه على معادن وثروات. كما أنه يجذب النمور الصاعدة والأسود المتهالكة في المنطقة. ولكن ذلك كله لا يُبرّر التعنّت والفوقية التي تتعامل بها باريس مع الملف. ولو نجحت القوى الأمنية في تهدئة الأمور اليوم أو غدًا، فلن يستمر هذا الوضع إن لم تجر مفاوضات حقيقية قائمة على قواعد القانون الدولي يترأسها رئيس الوزراء متسلّحًا بمكتبة فرنسية علمية عارمة بنصوص مساعدة على الخروج من عنق زجاجة الاستعمار مرفوع الرأس.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها