الإثنين 2024/09/23

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

من الرثاء إلى الهذيان: اللغة تعويذة ضد الجنون

الإثنين 2024/09/23
من الرثاء إلى الهذيان: اللغة تعويذة ضد الجنون
من تشييع القياديَين في "حزب الله"، ابراهيم عقيل ومحمود حمد، في الضاحية الجنوبية لبيروت (Getty)
increase حجم الخط decrease
بين أدبيات الرثاء ومفردات الشماتة، ازداد الحال في لبنان سوداويةً في الأيام الأخيرة. فغالباً ما يلتزم الناس الصمت في حضرة الموت، وتحت وقع الصدمة. لكن، في مجتمع بالكاد يستفيق من صدمةٍ حتى تصفعه صدمة أكبر، يكثر الكلام وقد يستحيل هذياناً، لا لشيءٍ سوى حمايتنا من الجنون نفسه.

تلقى اللبنانيون صفعة جديدة، بأبعادٍ كارثية هذه المرّة، عجزت اللغة القديمة عن الإحاطة بها. بعدما ظنّوا أنهم قد ألفوا المشهد، بل ملّوه، وباتوا على استعداد نفسي لمواجهة أسوأ سيناريوهاته... ها هي الحرب تطلّ عليهم برأس جديد، وبحبكة غير متوقعة، ليس اللبنانيون وحدهم غير مهيئين لها، وانما العالم بأسره.

قاموس الحزن: تبريكات بالمجزرة
اختفت لغة الملل والتطبيع مع الكارثة التي راجت طوال السنة الأخيرة، تلك التي تجسدت في تصريحاتٍ مثل "نحنا ما نخاف" و"نحن لها". ليحلّ محلها قاموس الخوف الغنيّ بالمفردات والمعاني والمسببات. فقد أصبح للرعب والهلع في الأيام الأخيرة مواضيع جديدة، تتجاوز الحرب التقليدية من قصف وموت وفقدان. الخوف الآن هو من الاختراق من بعد، ومن الانتهاك الكامل لشعبٍ ومجتمع متروكيْن بلا أي حماية.

بالـ"مذهلة" والـ"راقية"، وصفت الصحافة العالمية عملية تفجير وسائل اتصالات بأيدي مواطنين على امتداد الأراضي اللبنانية. أما الشارع اللبناني فإنقسم لسان حاله إلى أحوال. ثمّة مَن يقيم حداداً في مواقع التواصل، ويتلقى على الأرض "تبريكاتٍ" بسقوط شهداءٍ. ففي معجم الرثاء الخاصّ بحزب الله، تختلط مفاهيم الحزن والموت بالتهنئة والفرح. ثمّة أيضاً من يتحدّث عن عجائب ومعجزات بعودة البصر إلى عيونٍ مطفأة، مستعيناً بأهل البيت في محنته العسكرية.

في المشهد، تتكرر كلمات مثل "مجزرة"، "عيون"، "دماء"، و"عويل"، إلى جانب دعوات للثأر والانتقام. وفي الجانب الآخر، ترتفع أصوات الشماتة وكأنها لغة موازية، تُستدعى لتصفية الحسابات القديمة بمفردات الحاضر. فالخطاب الشامت الساخر لم يعد يقتصر على الحدث الجاري، بل يستدعي من الذاكرة الجماعية نزاعات سابقة لتصفية لتصفية حسابات غير منتهية، وأحقاد غير منسية، عناوينها "7 أيار"، "حصار مضايا"، "موجة الاغتيالات"، و"4 آب"... واللائحة تطول.

مجاز التضامن
وعلى وجه السرعة، أي في اليوم نفسه، صيغت لهذه المشهدية هوية بصرية. ظهرت صور العيون المطفأة والأطراف المبتورة وقد نبتت مكانها الورود. حلّ التضامن خجولاً، فأعلن المتعاطفون رغبتهم في وهب عيونهم، كنوعٍ من المجاز الشبيه بشعارات "بيوتنا مفتوحة" التي لا تجد ترجمة فعلية على أرض الواقع.

يزداد المشهد دمويةً في شاشة التلفزيون، ليس في نقلٍ مباشر من مناطق القصف والاستهداف، وإنما في استديوهات قناة "الجديد" التي تستضيف صحافياً معروفاً "بنزاهته"، ليدسّ في الخطاب العام -على نحو شبيه بدوره في فبركة ملفّ عمالة إسرائيل للممثل زياد عيتاني- مصطلحات من قبيل "الإعدام" و"حبل المشنقة". ولا، ليس المقصود هنا القصاص الذي يترقّب العملاء المسؤولين عن تسهيل عملية الخرق، وإنمّا العقاب الذي ينبغي توجيهه لكندة الخطيب، على خلفية تغريدة حول ضلوع حزب الله في تنفيذ عمليات اغتيال.

الكلمات تتراوح بين الثأر والشهادة من جهة، وبين استدعاء الخصومات التاريخية من جهة أخرى، ليصبح الفضاء الرقمي مسرحًا للخطابات المتناقضة التي تعكس حجم التشرذم والانقسام.

آيات وأبيات
في ظل أكبر هجوم أمني وسيبراني، يتخبط اللبنانيون بين لغة الشعر والآيات القرآنية، ولغة الثأر الرقمي التي تتألف من مفردات "الانتقام" و"الشهادة" و"التضحية"، فضلاً عن تعليق "المشانق" لبعضهم البعض. في الجانب الآخر، خطاب لا يقلّ عبثية، مفاده "لو كنت ناسي أفكّرك".

في خضم كل هذا، تخرج شرطة الأخلاق من فقاعتها، فتقف مشدوهة أمام كل تمظهر جديد للعنصرية "اللبنانية-اللبنانية"، وكأنّها فوّتت كل حلقات المسلسل. ملفتة هي قدرة هذه الفئة على تجديد دهشتها ودعواتها الفارغة للتمسّك بالعيش المشترك. وهي تبدو في الواقع أقرب إلى دعوة للتمسك بالموت المشترك. فعنوان هذه الجولة من السجال اللبناني هو التباين في مقاربة هذا الموت بوصفه جماعياً أم فئوياً. وخلافاً لما يروّجه البعض، فإن هذا النقاش سياسيّ بالدرجة الأولى، وليس أخلاقياً. فقرار الحرب اتُخِذ بشكلٍ أحاديّ، لكنّ عواقبه، من موتٍ وحزنٍ ودمار، هي جماعية مشتركة.

إذاً، لا مهرب من الحزن، حتى في خطاب سياسي رافض للحرب، ولمَن يشنّها. أما البديل، أي الدعوة إلى "تأجيل النقاش" و"هذا ليس وقته"، ليس هو الآخر سوى هروب من المسؤولية.

وسط فوضى المواقف والانفعالات، وتقاذف التهم (والتهم المضادة) بالعمالة والخيانة، حلّقت الطائرات الحربية في سماء بيروت، فامتصّ هديرها كل هذه الضوضاء. لم يعد للاتهامات والردود المتبادلة صوت أمام الحقيقة الصامتة: كلنا تحت رحمة أمراء الحرب ورهاناتهم، مهما كان موقعنا. أمّا الرسالة النصية المبهمة التي وصلتنا أخيراً من العدوّ، فأتت كترجمةٍ حرفية للهذيان الذي نعيشه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها