السبت 2024/08/17

آخر تحديث: 15:52 (بيروت)

نكتة الخوف

السبت 2024/08/17
نكتة الخوف
"مشاعر" للبنانية ليلا مارون افرام
increase حجم الخط decrease
بعد يومين على الذكرى الرابعة لانفجار مرفأ بيروت، عايدتنا الطائرات الحربية الإسرائيلية بجدار صوت اهتزّت له المدينة ونفوس سكّانها. فالمدينة التي نُكبت منذ بضع سنوات، تعرف جيداً رعب الصوت، واحتمالاته، ومآلاته. ولا يلبث الأمر أن يتحوّل إلى نكتة. نسخر من خوفنا وخوف الآخرين. لا مهرب من الهزل. فمن الحماقة الخوف من مجرّد صوت، من محاكاة للفعل دون الفعل نفسه، من دويّ بلا انفجار.

"شو بتخاف من الجدار يا زلمي؟!"، يسألنا أصحاب القلوب القوية، أو هذا ما يظنّونه، لا سيّما الجنوبيون الذين تنكّروا للخوف بفعل العادة. أمّا العرب، فهم أيضاً لا يفوّتون فرصة للسخرية وإن كانوا لا يقفون في وجه رصاص أنظمتهم وجيوشها. فما بالهم بطائرات F35 والإنفجارات شبه النووية؟

منذ بداية الحرب، توعّد الجيش الإسرائيلي، بيروت حصراً، بتحطيم زجاج منازلها بقوة الصوت. لم يدهشنا خبثهم، ولا معرفتهم العميقة بنا، بأصغر التفاصيل أو أكبرها، مثل التروما الجماعية.. تروما الصوت والزجاج. أتخيّل نشوة المسؤولين الإسرائيليين وهم يدلون بتصريحٍ كيديّ كهذا. يا لها من نكتة سمجة!

بينما نقبع في برزخ ما بين الحرب والقيامة، نترقب شكل الضربة المقبلة، ونستبق مذاق الرماد في أفواهنا. يعايرنا الصديق والعدو بخوفنا على مدينتنا. هل يذكرون معنا ما حلّ بالمدينة في المرّة الأخيرة التي ابتلعتها سحابة برتقالية؟ نخاف اليوم، ليس لأننا نذكر انفجار المرفأ فحسب، بل لأننا نذكر ما جاء بعده. لم ننسَ كيف انطوت المدينة على ركامها وعظام سكّانها، وكأنها بيت من ورق. ومنذ ذلك الحين، يحاول من تبقّى من سكّانها ايقاظها من سباتها بالشِّعر والنوستالجيا، لكنّهم، وإن بحسن نيّة، يبدون كمَن ينكّل بجثةٍ نصف هامدة.

ماتت بيروت على مراحل. هذا ما تقوله لنا قصص الذين يكبروننا، وكذلك الرواية الرسمية عن تاريخ المدينة التي عرفت مجون الحرب والحياة. ماتت في أزمنةٍ متفاوتةٍ بالنسبة إلى هذا الجيل أو ذاك. كان الظلام الذي خيّم عليها منذ بدء الأزمة الإقتصادية، دليلاً ملموساً على احتضارها. فالمدن المطفأة ليست مدناً. ثمّ جاءت جائحة كورونا وأغلقت الشوارع والأبواب. والمدن المغلقة ليست مدناً. ثمّ دوى تفجير المرفأ، فخلع الأبواب وحطّم النوافذ، مشرّعاً الداخل على الخارج. والمدن المشرّعة ليست مدناً.

نخاف اليوم لأننا شهدنا وما زلنا نشهد يومياً، من داخل هذه المدينة البائسة أو من غربتها، موتها البطيء الأبدي. موت يتجدّد كلما عبرنا زقاقاً مظلماً يبدو وكأنّه مهجور من كل شيء إلا من الجرذان والصراصير، فيلسعنا شعور بارد بالوحشة حين نستدرك أننا، وتلك الصراصير القادرة على النجاة من قنابل نووية، نحيا في جسدٍ ميّت، في انتظار الحذاء المقبل الذي سيسحقنا عرضاً.

يهدد حزب الله إسرائيل بقطع الكهرباء عنها، فهو يعرف جيداً ما تفعله الظلمة في المدن. فالظلام هو أكثر أشكال الخوف نقاوةً ونصاعة. الرهبة مما لا نراه ولا نعرفه، وربما لا وجود له. إنه ذلك الخوف الذي يتلبّس ذهنك حتى ترى الأشياء من حولك أشباحاً، فتظنّ أنك تهذي. إلى أن تكتشف بأن المدينة نفسها قد غدت طيفاً، وأن ما تراه ليس سوى أشباح في هيئة أشياء. وكأنّ تلك السطوة على أبصارنا ليست كافية، حتى اكتسبت الأشباح القدرة على النطق. وما أخبثها من أصوات، تلك التي تزجر سماء بيروت، ناشرة الرعب كغاية بذاتها، لا كعارض جانبي من عوارض الدمار.

يسخر كثرٌ، وعلى رأسهم الممانعون، من خوفنا، نحن المبتدئين في الحرب. يطالبوننا بمواجهة احتمالات موتنا اليومية بهدوء ورزانة. هذا قدرنا المحتوم، يقول المؤمنون بالقضية وبالقيامة. وهذه هي الحتمية الديالكتيكية، يقول مثقفو الحانات المنتشون بأوهامٍ عن حرب تنتشل مدينتهم من بؤسها. لكن يبقى الخوف أصدق من كل محاولات التطبيع معه، أو طمسه تحت ثقل العقيدة والسخرية. هذه الأخيرة، وإن كانت من دواعي الصمود، هي في جوهرها سخرية من فرضية العيش بلا مسبّبات استثنائية للخوف. لذلك، وكما العديد من نكات العجز اللبنانية، هي نكتة سمجة.

تذكّرني هذه النكتة بأخرى لا تقلّ ثقلاً، وهي عبارة عن سؤال: ماذا لو كانت نوبة الهلع هذه هي فعلاً أزمة قلبية؟ هذا على اعتبار أن نوبة الهلع تحاكي عوارض الأزمة القلبية، لكنها غير قاتلة. في الواقع، كلّ نوبة هلع هي بمثابة أزمة قلبية محتملة. وكلّ غارة وهمية هي موت المدينة المحتمل والمؤجل، معلّقاً على طاولة المفاوضات.

بعد أربع سنوات على انفجار المرفأ، لم نسترجع بيروت من فوهة السحابة البرتقالية. نحن نعلم يقيناً أن مدينتنا عاجزة عن احتمال الضربة المقبلة. نخاف. وكيف لنا ألا نخاف؟ وكيف نثق في من لا يخافون على مدينتنا؟

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها