هكذا تفاعل أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع مقطع فيديو متداول لفرقة "شكون" أثناء أدائها لأغنية "شيّد قصورك" للشيخ إمام، بتوزيعٍ الكتروني، في أحد مصايف الساحل الشمالي في مصر. وأثار الفيديو موجة استياء في الأوساط المصرية لأسباب فنيّة وسياسيّة. فقد رأى البعض في هذا التجديد تشويهاً لإرث ثقافي وشعبي ثمين، فيما شعر آخرون بالإستفزاز على خلفية أداء أغنية يسارية ثورية، تُعدّ من كلاسيكيات التظاهر والاحتجاج في مصر والعالم العربي، ضمن حفلةٍ موسيقية باذخة جمهورها من برجوازييي الساحل المصري، حيث الخمارات ولا مصانع، والقصور بلا مزارع، وبالطبع لا عمال ولا فلاحين ولا طلبة... استلهاماً من كلمات أغنية الشيخ إمام.
والواقع أن الأغنية الموزعة إلكترونياً ليست جديدة، فقط أطلقتها الفرقة السورية-الألمانية "شكون" منذ ما لا يقلّ عن سبع سنوات. وهي ليست أوّل أغنية للشيخ إمام يعاد إنتاجها بتوزيع جديدة من قبل فرقٍ مستقلّة، سواء باستخدام موسيقى الروك كما في أغنية "يا ولدي" التي أعادت "فرقة جين" تقدمها، أو الموسيقى الالكترونية كما فعل زيد حمدان ومريم صالح في ألبوم "حلاويلا"، وأخيراً كما فعلت "شكون" في "شيّد قصورك".
ولعلّ النقد الذي وُجّه إلى نسخة "شكون"، خصوصاً في ما يتعلق بقيمتها الفنية، يُعزى جزئياً إلى عدم فهم بعض المنتقدين للموسيقى الإلكترونية، واعتبارها تزويراً للأصل. ويتجلى هذا في تعليقات وصفت موسيقى الفرقة، التي تمزج الألحان الشرقية والتراث الريفي السوري بالموسيقى الإلكترونية، بأنها مجرد "ضجة" و"تهريج" و"تخريب للفن الأصيل".
وكما هو الحال مع العديد من محاولات التجديد في البلدان الناطقة بالعربية— اللغة التي تبدو شبه محظورة على التجديد— واجهت أغنية "شكون" مقاومة ثقافية ترى في كل جديد تهديداً للقديم. وعلى حد تعبير أحد المعلقين، فإن هذه النسخة الإلكترونية أخفقت لأنها لم تنجح في تأجيج "المشاعر الثورية" لديه. ليرد عليه آخر قائلاً: "كيف تتحدّث عن المشاعر الثورية وأنت ترفض فكرة التغيير في الموسيقى؟"
من جهةٍ أخرى، يحاجج البعض بتفوّق ألحان الشيخ إمام على أي رؤية أو مقاربة عصرية لها. فليس هناك، في رأيهم، ما يمكن أن يضاهي أعمال الشيخ في أصالتها، هي المستمدّة من صلب الثقافة الموسيقية العربية والمصرية. لكن ما يغفله هؤلاء هو أن تلك الازدواجية بين الموسيقى الشرقية والغربية لم تعد ما كانت عليه، وأن الراب والإلكترونيكا وغيرها من الأنماط المولودة في الغرب، أصبحت جزءاً من موسيقانا بقدر ما هي جزء من موسيقاهم. لربّما اختلط الأمر على البعض الذين يرون في اسم "الشيخ" الشيوعي إحالةً إلى ما هو مقدّس وغير قابل للتحريف والتعديل وحتى القراءة بلغاتٍ أخرى. أو كما قال أحد المعلّقين، مختزلاً نقاشاً طويلاً ومكرّراً، بعبارة يمكن إسقاطهما على كثيرٍ من سجالاتنا الاجتماعية: "هو مش قرآن لا يمكن المسّ به!"
من الناحية السياسية، يمكن فهم امتعاض الجمهور وحتى سخريته من هزلية هذا المشهد، حيث يحضر الإرث الثقافي الثوري كمادّة ترفيهية لجمهورٍ ثريّ يبحث عن صرعته الإكزوتيكية المقبلة. "هما فاهمين اللي بيسمعوه؟" يكتب أحد المعلّقين، مشيراً إلى موقع روّاد الساحل "الشرير"، كما يسمّيه المصريون، في الصراع الطبقي. بينما يتساءل آخر: "بتغني لمين؟ وفين؟ فين المزارع والمصانع؟".. يرى هؤلاء أن تأدية هذا الأغنية في مثل هذا السياق يؤدي إلى تتفيهها وتفريغها من معناها، وصولاً إلى تجريدها من صفتها السياسية أو حتى التهكّم بها عبر استثمارها في نقيضها.
إلا أن تلك الأسباب كلّها لا تبرّر فعلاً دهشة البعض إزاء ما اعتبروه ظاهرة غريبة. فليس من غير المألوف أن تستولي الطبقة البرجوازية على فنون الطبقة العاملة، وتعيد صياغتها كاستيطيقيا مجرّدة من تجربة أصحابها، بما يتناسب مع ذوقها الخاص. يمكن مثلاً الإشارة إلى "بيلا تشاو"، أيقونة الغناء الثوري التي انتشرت بفعل مسلسل في "نتفليكس" بشكلٍ طفيليّ حتى باتت تذكّر المستمعين، ليس بالمقاومة الإيطالية ضدّ الفاشية وظروف العمل القاسية، وإنّما بمؤخّرة "طوكيو" وعيون "البروفيسور" في مسلسل "كازا ديل بابيل".
هل يخشى المثقفون الممتعضون إذاً من تحوّل "شيّد قصورك" إلى "بيلا تشاو" جديدة؟ ربّما.. لكن هل الأمر بهذا السوء حقاً؟ صحيح أن تريند "بيلا تشاو" ساهمت في تسخيف الأغنية، لكن هل هذا أسوأ من سقوطها في طيّ النسيان؟ كان من الممكن لأغنية "بيلا شاو" أن تعيش طويلاً على هامش الإنتاجات الثقافية السائدة وذلك لارتباطها بقضيةٍ تعدّ حتى اليوم، وفق معايير المجتمع الغربي، قضية محقّة. أمّا أعمال الشيخ إمام وفؤاد نجم، التي حاربتها الأنظمة المصرية المتعاقبة خلال حياتهما، فيما تجاهلها السواد الأعظم من الجماهير العربية، حتى باتت قلّة قليلة من المستمعين تعرفها اليوم.. فهذه الأعمال ليس لديها حظّ وافر بالبقاء على قيد الحياة والوصول إلى آذان الأجيال الشابّة. فلنتركّها تعيش، وإن على إيقاعات "التكنو" أو حتى "الشامي".
في مشهد من أحد المسلسلات المصرية، يسأل شاب يعزف العود، المرأة التي يجلس برفقتها، إن كانت تستمع إلى "الشيخ إمام". فتجيبه بأنها تشعر بالذنب لأنها لم تستمع إلى تسجيلات القرآن منذ انقضاء شهر رمضان! عندما يسمع معظم الناس اليوم إسم الشيخ إمام، يظنونه شيخاً يتلو القرآن أو يقدّم المواعظ الدينية. فلا بأس ربما إن تعرّف عليه البعض من خلال الحفلات الصاخبة وفي منتجعات الأثرياء.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها