"هل فقدنا كلّ شيء؟"... يتساءل يومياً والداي النازحان من الجنوب. فكلّ شيء، بالنسبة إليهما، هو بيتهما الذي قضيا عمراً في بنائه، وما يزنّره من أشجار ونباتات رأيناها تكبر معنا، وأمام عيوننا، فأضحت مرآةً لذاكرتنا.
في كلّ صباح، يُجري أبي اتصالاته ببعض الجيران للسؤال عن أحوال حيّنا وبيتنا فيه. الكلّ غادر، بالطبع، لكن بينهم من "يزمط" بين حين وآخر في مشوارٍ خاطفٍ الى الجنوب لتفقّد منزله، أو أخذ بعض الحاجيات. يطمئنه أحد الجيران بالقول بأن مبناه الملاصق لبيتنا ما زال قائماً، فهو يتحقّق يومياً من عمل الطاقة الشمسية الموصولة بالانترنت. "ما دامت الطاقة الشمسية شغّالة، يعني البيت لم يُقصَف". يرسل له جاره الآخر فيديوهات من كاميرات المراقبة المحيطة بمنزله، علّ احدى زوايا بيتنا الحمراء تطلّ من وراء أشجار السرو فنطمئن على سلامته. يعيد أبي إرسال الفيديو لجارٍ ثالث، فيجيبه الأخير "بيتي حبيبي.. لم نكن ندرك أننا نحيا في نعيم".
تأخّرت عائلتي في الخروج من الجنوب. كانوا آخر من غادر حيّنا بعدما انهمرت عليه الوحشيّة الإسرائيلية دفعةً واحدة، في ذلك الإثنين المشؤوم. تأخّر الوقت وكانت الطريق قد اختنقت بالهاربين، مما اضطرهم الى إرجاء رحلة النزوح الى اليوم التالي. "ماذا تفعلون؟ لماذا لم تخرجوا من البيت بعد؟"، كنت أسألهم عبر الهاتف، من دون الحصول على اجابة شافية... إلى أن أخبرني شقيقي بالحقيقة في ما بعد. "أمّك كانت عم تشطف وتمسّح"، قال بمزيج من السخرية والمرارة.
هذه عادة أمّي. كلّما هممنا بالخروج، انتظرناها طويلاً في السيارة ريثما تنتهي من مهامٍ منزليّة. لكن تلك المرّة كانت مختلفة، فهي ربّما الأخيرة. أبت أمي مغادرة بيتها من دون الاعتناء به مرّة أخيرة. عزّ عليها أن تتركه إلا وهو في أفضل أحواله، على طريقة النساء الفلسطينيات اللواتي أنهين غسل الأطباق قبل أن يُطرَدن من منازلهن خلال النكبة. مارست طقوسها اليومية، ووضّبت الأشياء في مكانها، وكأنها تقول لبيتها ولنفسها: "لا بأس يا عزيزي.. سأعود لأجد كلّ شيء نظيفاً.. وكلّ شيء في مكانه".
أتخيّل أمّي في آخر يومٍ لها في بيتها. أراها تركض في أرجاء البيت والحديقة، تحت أصوات القذائف والصواريخ، محاولةً الاهتمام بكلّ تفاصيله. تدلق المياه في غرفة، وتسقي النباتات في الخارج، تكنس أوراق الشجر المتساقطة على الأرجوحة، وتطعم القطط. تلقي نظرةً أخيرة على كلّ زاوية من زواياه، علّها تحفظها في قلبها إذا ما طال الغياب. أعرف في سرّي أنّها كانت تطيل وقت التنظيف وتخترع مهام لا لزوم لها، لا لشيء سوى إكتساب لحظةٍ إضافيةٍ في بيتها. إستمرّت في دلق المياه وسقي النباتات، علّ القذائف تتوقف فجأة، فيظهر أن المسألة لم تكن سوى مزحة ثقيلة وأن لا ضرورة للمغادرة في نهاية الأمر..
مِن أجل مَن نظّفت أمّي البيت الذي لن يدخله أحد... إذا بقي واقفاً؟ لا، ليس من أجلها، كما ظننت في البدء، بل من أجله هو. البيت الذي أرادت التعبير عن حبّها لها، فراحت تمسح غباره برقّةٍ، وكأنّما تمسح عن جبينه مرارة الهجر، وتلتمس المغفرة. تحنّ عليه مرّة أخيرة، وتقول "افصح لنا".
أذكر المشقة التي عاناها والداي من أجل بناء بيتٍ لنا، في الجنوب. كلفة تعمير البيوت ليست ماديّة فقط. فكيف يحيا الحجر ان لم تبذل روحك فيه؟ هذا ما علمّتني اياه تجربة التنقّل بين عدد لا يحصى من المنازل المؤقتة التي لم تتحوّل يوماً إلى بيتاً. أمّا كلفة بناء بيت في الجنوب بالتحديد، فيسددها كثر من الجنوبيين بالاغتراب والفراق.
أعادنا تحرير الجنوب للعيش في أرضنا، بينما بقي والدي في بلاد الاغتراب، يسدّد فاتورة تشييد بيتنا. عشر سنوات استغرقها بناء البيت. ساعات لا تحصى أمضيتها وأخي في المقاعد الخلفية لسيارة أمي، نتأفف مللاً وننسج الأحلام، بإنتظار أن تفرغ من اختيار البلاط أو تنسيق ألوان الطلاء أو انتقاء طاولة السفرة. بتفانٍ، اختارت أمي كلّ قطعة من قطع المنزل. لكلّ منها قصّة وذكرى ونكتة. عُمر كامل من العمل والحبّ والألم، خبأه والديّ داخل هذا البيت الذي أراداه لنا ملجأ من وحشية العالم، فها نحن اليوم عاجزين عن حمايته من الوحش. ذاكرة حيواتٍ أربع نُسجت على جدرانه؛ فهل يمحي ذلك كله في لحظة؟ يا لتفاهة الفَقد...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها