السبت 2024/08/24

آخر تحديث: 17:28 (بيروت)

أريد أن أُمدَح

السبت 2024/08/24
أريد أن أُمدَح
"حلم" للفنان السوري صفوان دحول
increase حجم الخط decrease
نساء كثيرات حولي يتحرَكن في الاتجاهات كافة. في مرايا صالة الأيروبيك تَكرّرنا مراتٍ كثيرة، كنا نبدو أكثر وأكبر. في البدء، تملّكني شعورٌ بالخجل، فأنا لم أدخل صالةَ أيروبيك من قبل، والرياضة الوحيدة التي أعرفها هي المشي. لكن بعد دقائق قليلة، تبيَّن لي أنَّ أياً ممن حولي لا تنظر إليَّ، حتى المدربة نفسها كانت تحدق في صورتها في المرآة وتبتسم بإعجاب وكأنّها المرة الأولى!

نتقلب على مخداتنا ليلاً، ونحن نفكر في أنفسنا، في ما فعلناه، ولم نفعله. ووحده النوم يُعطل رحلة يومية شاقة ومُنهكة للحفاظ على ذواتنا، رحلة تبدأ بغسل وجوهنا صباحاً، والتحديق مطولاً في مرايانا.

نُحب أو نكره، نتعلم أوَ نتكاسل، نعمل أوَ نرتاح، نتزوج أو نقرر البقاء وحدنا، ننجب أطفالاً أو نرفض الإنجاب... وَكل ما يحركنا غرائزنا، رغباتنا، أنانيتنا وغرورنا وحبنا لذواتنا.

ومَن منّا لا يحب نفسه؟ وَهل في مقدورنا ألّا نحبها؟ ما الذي سيحثنا حينها على الحياة؟ على الاستمرار؟ ما الذي سيدفع تلميذاً للتفوق، أو رياضياً للفوز، أو سياسياً للبروز والقيادة؟ حتى في أكثر أعمالنا إنسانية، كمُساعدة الآخرين سراً، ألا يرتبط الأمر بذواتنا أيضاً؟ بمنحها ذلك الشعور الجليل، الرضى!؟

"كل التاريخ البشري ما هو إلا صنيعة الأنانية"، يقولها ماكس شتيرنر في كتابه الأوحد. شتيرنر فيلسوف الأنانية، تلميذ هيغل، ورُبما أحد المؤثرين في نيتشه. رأى أن البشرية قيدت نفسها بقيود من صنعها، قيود جعلت البشر يُساقون كقطعان بإسم الوطن وبإسم الأمة والعقيدة والدين وغير ذلك من شعارات جوفاء، شعارات ابتدعتها عقول أنانية.

أتساءل لماذا علينا أن نتبع أفكاراً صاغها بشر مثلنا، لمآربهم الخاصة؟ وأن نحرسها، وندفع حياتنا ثمناً لها؟
حياة تُمنح لنا مرة واحدة فقط، حياة لا خيار لنا في قبولها أساساً!
حتى الحبّ، ذلك الشعور الذي طالما تغّنى به البشر، هو محضُ أنانية. تقول آيان راند، الفيلسوفة الروسية-الأميركية، والهدف الأخلاقي الأسمى لحياة الإنسان هو السعي لتحقيق سعادته الشخصية.

تنعكس صورتي في المرآة، فتبدو الآخريات أصغر حجماً. ألا يجب أن نحب ذواتنا ونقدرها؟ بالنسبة إلي، حب الذات كان الفراغ الذي لا بدّ منه، الفراغ الذي أوجده أرخميدس لأتمكن من الطفو، من التوازن. حقاً، للأنانية فضائل، كما تقول راند!

بعكس فلاسفة الأنانية، يدعو الكتاب المقدس إلى نبذ الأنانية، سبب الشرور والكراهية والخطيئة والحروب. يدعو إلى حب الآخرين، حتى الأعداء، مباركتهم، والصلاة لأجلهم. لكن الأنانية تسري في عروقنا نحن البشر، وَتبدو أمراً طبيعياً لدى الأطفال. لكن استمرارها ينقلب نرجسية عند البلوغ، ذلك الشعور المتضخم بقيمة الذات، شعورٌ عالَمُه الأكثر ملاءمة هو السوشال ميديا، هناك حيث في الإمكان الظهور بأبهى الصور والشعور بنشوة المديح الذي يدغدغ الغرور والأنانية ويزيدهما عطشاً.

الغرور أسوأ الخطايا السبع، تلك الرغبة في الوصول للتقدير من الآخرين. وما هو سوى الخواء في اللاتينية. "ياللغرور إنّكَ الرافعة التي أراد بها أرخميدس رفع العالم!"، يقولها ليرمنتوف على لسان أحد أبطاله.

ومَن لا يبتسم، حين يجد عدداً كبيراً من التعليقات والقلوب معلقاً أسفل صورته في فايسبوك أو إنستغرام؟ أو حينما يَكثر عدد متابعيه؟ جميعنا نُريد أن نُلاحظ، أن يلاحظنا الآخرون بطريقة أو بأخرى، ها نحن هنا أيها العالم!
نحن هنا، موجودون، ولنا تأثير.

في عيادة الأمراض الجلدية المزدحمة، مُنتظرةً دوري، لم ألحظ وجود مرضى حقيقيين، بل غالبية من نساء وفتيات ينتظرن دورهن لأجل التجميل، للظهور بأبهى الصور في المرايا. التجميل لأجل الآخرين، لنيل قبولهم، إعجابهم، مديحهم. ذلك الاهتمام الزائد برأي الآخرين، في الحقيقة لا يختلف عن دافع جرائم الشرف، جرائمُ ضحاياها النساء أنفسهن، لأنها هي الأخرى ليست سوى اهتمام متضخم بآراء الآخرين وتصوراتهم عنا. ألا يُحولنا ذلك الاهتمام لأشخاص مزيفين؟ أين هي فرديتنا؟ وأين يكمن الجمال في ذلك؟

لم أواصل الذهاب إلى صالة الأيروبيك، رغم زيادة وزني ورغمَ وعود المدربة بنتيجة سريعة ومُرضية. كنت أشعر بالهواء ثقيلاً، وبالسقف المرتفع واطئاً، وبالمرايا مزيفة.
بينما أخطو فوق برك صغيرة، برك تركها صهريج ماء مُسرع ومتعثر، برك تَعكس قطعاً من السماء على امتداد الطريق أمامي، أتذكر كلمات درويش: "المشي رياضة وحرية".
لا شيء يوازي التحرر من المرايا المزدحمة بالبشر، والخروج منها.
لكن، هل بإمكاننا التّخلص من ذلك التوق لمحبة الآخرين لنا، لاحترامهم، لتقديرهم وَاهتمامهم، التخلص من تبعيتنا لهم؟

ربما يَختصر سيوران ما يشغل بالنا نحن البشر، وغايتنا من كل ما نفعله: "لو أقر كل منا برغبته الدفينة التي يكتمها أشد الكتمان، بالرغبة التي تُلهم كل أفعاله ومشاريعه كافة، لقال: أُريد أن أُمدَح".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب