قبل بضع سنوات، اتصل بي أحد المعارف ليعرض عليَّ "عملاً مميزاً..لأني أستحق"، كما قال. وشرح إنه ليس عليّ سوى الجلوس في المنزل، خلف شاشة الكومبيوتر، لأبيع بعض المنتجات. بضع ساعات عمل في اليوم، لإقناع الآخرين بالانضمام للمشروع، ومن بعدها سأجني أرباحاً مذهلة، حياة باذخة وسعيدة! ما الذي ينقصني بعد؟
لا ينقصني إلا أن أشارك في البداية بـ2500 دولار... فقط!
فقط؟ ضَحكتُ في سرّي، ما هذا العمل الذي سأدفع له، بدلاً من العكس؟ أُفكر، بينما يواصل الشخص هذيانه عبر الهاتف. وحتى لو امتلكتُ ما لا أملكه، أي الوقت والمال والقدرة على الإقناع وهوس الإثراء السريع، كيف أستطيع خداع الآخرين، وتضليلهم، والاحتيال عليهم لأجل المنفعة؟ أم أن المتصل مجرد ضحية؟ ألسنا جميعاً ضحايا بطريقة ما؟...
بعيداً من هنا، في فرنسا، بين شجيرات حديقة فرساي، كان الطّمع في نَيل حظوة لدى القصر والأمل في منصب رئاسة الوزراء، يُعميان الكاردينال عن رؤية الحقيقة، ويقودان خطواته للقاء ماري أنطوانيت لمَنحها عِقداً من الألماس هو الأضخم في التاريخ بمئات الحُبَيبات الماسيّة. العقد الذي يقال إن اللغط حول سداد ثمنه كَلَّف الملكة الفرنسية رأسها. ورغم أن المرأة التي أخذت العقد، كانت، بحسب السردية المتناقلة، مجرد محتالة تشبه ماري أنطوانيت، ومُشاركة في قضية النصب تلك، إلا أن الفرنسيين واصلوا اتهامهم للملكة الباذخة التي أنهكت خزينة فرنسا بينما يعاني شعبها الجوع والبؤس.
أما ذاكرتنا الشعبية، فتعيد مراراً قصة يربو عُمرها على ثلاثين عاماً، عن ابنة بلدتنا التي تخلت عن مجوهراتها طوعاً، لجامع أموال مُحتال، وهو في طريقه إلى المطار، ليهرب بما جمعه. وبينما كان يستعد لركوب الطائرة، أخذت المرأة تتوسله لقبول مصاغها الذهبي، آملة أن تجنيَ أرباحاً شهريةً من هذا "المُستثمِر". تقول الحكاية، المروية بأكثر من طريقة، أن المحتال، حاول ثنيها لأنه توقف عن جمع الأموال، وها هو يهرب من البلاد بما جمعه. لكن المرأة لم تكف عن التوسل إليه لأخذ مصاغها.
ينسج الخيال الشعبي في بلادنا الكثير من الحكايات. يُضيف يُقصي، يُضخّم ويُصغّر، يُلوّن ويُعتّم. وَحسب الوعي والقبول لدى المتلقين، تكون الحكاية.
أَتَساءل إن كانت تلك المرأة ومصاغها، حقيقية، أم من إبداع هذا الخيال، لكن الحِكمَة ما زالت تصل جليّة. فوجود أناس مثل هذه السيدة، يقتضي بالضرورة وجود محتال مثل هذا ذاك ما زال يذكُره كثيرون حتى اليوم. تُرى هل كان يعمل وَحده؟ أم هناك آخرون؟ أسماء قليلة، تحفظها الذاكرة الشعبية، عملت في تشغيل الأموال في أواخر القرن الماضي. لكنهم، في السنوات الأخيرة، باتوا كثرة، ولا بد أن كلّاً منا يعرف أحد الضحايا على الأقل: هدفٌ طَموح واحد، ونهايات مختلفة تبدأ من الاختفاء وتنتهي بالقتل أو الانتحار.
تحول الاحتيال مؤخراً إلى صناعة، مقوماتها الخوف والقلق، العجز وقلة الحيلة، وانعدام الضمانات إزاء ما يحدث. صناعةٌ نحن وَقودها.
سماسرة السفر أخذوا يظهرون منذ بداية الحرب، في مكاتب أو منازل. ولقاء أوهام بالخلاص وتغيير المصير، يتقاضون آلاف الدولارات، وتنتهي غالبية الأسفار ببقاء الناس.. مُفلسين ويائسين.
منذ أسابيع قليلة، انطلق مئة سوري مع تذاكر سفر وتأشيرات يُقال أنها وهمية، في رحلة وجهتها سورينام (أميركا الجنوبية)، لكن، ولأسباب كثيرة ومتناقضة، انتهى حلمهم بالهجرة... في لبنان!
مشاريع هرَمية وشبَكية وبالأبعاد كافة، وضحاياها مُعدَمون وأثرياء. فإذا كانت الحاجَة الماسّة وتلاشي الحلول هما مبرر المعوزين لِدخول هذه المشاريع، فما بَيّنةُ الموسرين منهم؟
شركات ومشاريع وهمية تماماً، وبدلاً من شخص واحد يجمع الأموال ويطير بها، أشخاص، واجتماعات، مطاعم وملابس خاصة، وتلقين لمعلومات يرددها المشتركون بلا استثناء. طقوس لا تختلف كثيراً عن الشعوذة.
مؤخراً طوّر أحدهم مشروعاً جديداً، دعتني صديقة للاستثمار "الآمن المضمون" فيه. الخطة أكثر تطوراً هذه المرة. مكاتب غير رسمية، موظفون، أجهزة كومبيوتر، آلاف وآلاف المشتركين، عملة رقمية، وفوائد خيالية تصل إلى 33%. كأننا عُدنا إلى بدايات القرن الماضي، ومخطط تشارلز بونزي، أحد أكبر المحتالين في التاريخ الأميركي، مؤسس النظام الهرمي لاستثمار الأموال والثراء السريع.
أسأل نفسي، إذا كانت حادثة "السيدة ذات المصاغ الذهبي الضائع" وغيرها ما زالت في الذاكرة الشعبية، فلماذا لم يتعلم منها أحد؟ وما الذي تفعله تلك الحكايات في ذاكرتنا إذاً؟ وإذا كان المشروع الذي تغريني به صديقةٌ تُصدّقه، ليس الأول من نوعه، وسبقته مشاريع عديدة في الماضي القريب انتهت غالبيتها باختفاء مبتكريها، فلماذا لم يتعلم أحد الدرس أيضاً؟ وفي عصر التكنولوجيا هذا، هل من العسير علينا البحث، ولو بشكل أوّلي، عن ماهية تلك المشاريع وخلفيتها؟
هل نحن مجرد ضحايا تسوقنا الأقدار إلى المكان والزمان الخاطئين؟ مجرد ركّاب كما في فيلم "احنا بتوع الأوتوبيس"؟ ركاب أبرياء نتعرض لِقصاص لا نستحقه؟ ألا نتحمل جزءاً من المسؤولية؟
قصة "سيدة المَصاغ" تتكرر، بمظاهر جديدة وأحمال إضافية. والمؤلم أنّ الضحايا يتقبلون خساراتهم بكامل التسليم والرضا. أعرفُ كثيرين وأسمعهم يبررون: "نحن خاسرون سلفاً في هذه البلاد، ما المانع من خسارة إضافية؟". يتدرج هؤلاء بين أصحاب أعلى الدرجات العلمية ومَن لا يستطيعون القراءة. لا فرق في المُصاب. أستغرب. ألَم يغير التعليم، الذي ازدادت نسبته، شيئاً في وعينا؟ أم أُريد له أن يكون مجرد هراء وحشو للأدمغة، بلا إمكانية تفكير ولا معالجة معلومات محددة سلفاً؟ تحضرني كلمات مصطفى حجازي: "التعليم في العالم المتخلّف مجرد قشرة خارجية تسقط عند أول اختبار".
نصب واحتيال وسرقة، مخدرات وأسلحة وعنف، اقتتال وَخطف وَقتل، تجويع وذل وقهر. كل ما نعيشه، منذ سنوات، مَن يُبقيه مُستمراً؟ تُرى هل سننجو مما يحدث؟ هل سننهي رحلتنا بسلام؟
يخبرنا المؤرخون أنه بعد بضعة أشهر من قصة ذلك العِقد في قصر فرساي، اندلعت الثورة الفرنسية، وبعد سنوات ثلاث أُعدمت ماري أنطوانيت. وَنحن هنا، ركاب الأوتوبيس، كَم مُحتالًا نحتاج بعد؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها