أخبرتنا كيف تصرفت بحِكمة حينَ طرقت بابها تلميذة تبكي وفي يدها رسالة مزينة بقلوبٍ صغيرة. فقد جلست المرشدة مع التلميذ صاحب الرسالة، وبيّنت له أن ما فعله إهانة لكرامة صديقته، وطلبت منه الاعتذار لها وألا يفكر في هذه الأمور، ويطوي مشاعره حتى يُمسي قادراً على الزواج، عندها فقط يستطيع أن يَشعر!
ذُهلت وأنا أصغي لكلامها، وكأن هذه المرشدة لم تدرس عِلم النفس، بل لم تسمع به مطلقاً.
ولأن الوجوه كلها من حولي راحت تومئ لها بالإيجاب، ولأني كنت قد أثرتُ قبل حديثها سيلاً من الملاحظات، قررتُُ ترك علم النفس لأصحابه والمغادرة...
في طريق العودة للبيت، تزاحَمت الأفكار والصور في رأسي.
مدارس ابتدائية سورية شبيهة بثكنات، لا إمكانية للملاحظة، ولا للنقد، وَلا حتى للنقاش.
معلّمة مسؤولة دفعت طفلة في الصف الأول الابتدائي في الباحة، لمنعها من محاولة استكشاف القسم التُّرابي من الباحة. اكتفت مديرية التربية بعدها باتصال خجول بالمدرسة، للتذكير بعدم استخدام العنف. التذكير اللطيف لم يغير شيئاً. تابعت المعلمة، مهمةً ظنت أنّها مُوكلة إليها. التهديد الدائم، توبيخ التلاميذ، الآباء والأمهات أيضاً إذا اقتضى الأمر، الضرب بعصاها، القبض على من يخالف الأنظمة في لباسه أو شَعره. في إحدى المرات أغلقت باب الصف وانهالت على تلميذ بالضرب المؤلم، لأنه اشتبكَ مع ابنها. معلمة الصف حينها ظلت متحجرة قرب النافذة، ثم تابعت الدرس تاركةً سيلاً من الدموع الصغيرة يجف وحده.
مديرة مدرسة ابتدائية غارقة في كرسي أسود ضخم، في غرفة ضيقة خانقة ومعتمة، أطلقت أحكاماً أخلاقية مبرمة على طفل في العاشرة من عمره، كي لا تعترف بخطئها، وبسوء معاملتها وإهانتها له. المديرة أجبرت الطفل على توقيع تعهد، توقيع صغير على أمور كبيرة لا يفهمها، ولم يقرأها حتى...
لا قوة قادرة على إبعاد المديرة عن كرسيها، فلديها واسطة أضخم مما يمكن تصوره. هذا ما قالته حرفياً. المديرة أنكرت أن الفوضى التي حدثت، والاتهامات التي كالتها لأطفال، كانت لحماية صديقتها المعلمة التي تمضي دروسها، صارخةً في وجوه الأولاد ليصمتوا كي تتمكن من التركيز في ألعاب الموبايل.
في مدرسة أخرى، كانت مديرة تخطط لفصل الصبيان عن البنات الصغار أثناء الفُرصة، رغم أنها لم تمانع أن مُستخدَماً شاباً، كان يلعب مع الأطفال وهو يدخن بشراهة ومسدسه يتدلى من حزامه. المُستَخدَم كان يُطلب منه اللحاق بالأطفال المشاغبين ليتمكن المسؤولون في المدرسة من عقابهم. وكما يحدث دائماً في هذه البلاد، لم تُقَل الحقيقة أبداً، بل حُفظت لتموت في الأدراج.
مدير مدرسة ثانوية كان حريصاً مثلهم على التربية أيضاً، أتذكّره، عابساً وَعصبياً وَنزقاً، محاطاً بلمّة من مدربات الفتوة والموجّهات في اجتماعات الصباح. ووسطَ شعارات كبيرة، كان يصرخ وينفعل بشكل مخيف وَيَعد الطالبات بتربيتهن كما تُرَبى القردة السوداء... ليس تلميحاً منه لنظرية داروين، بل لحجم سلطته وجبروته.
لم تتحول واحدة منَّا قردة سوداء، أو بيضاء حتى، حسب علمي. بل أُحيل هو بعد عقود من الإدارة إلى التقاعد الإجباري لتحرشه بفتاة صغيرة في مكتبه.
"لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً"، يقولها دمنة واعظاً الأسد، في "كليلة ودمنة".
تَذكرت حديث صديقتي المقرّبة عن المدارس في كندا، عن معاملة الأطفال هناك، كيف ينحني مدير المدرسة، بكل ودّ، لربط شرائط الأحذية الصغيرة. أمّا هنا، فشعارات كبرى، أخلاق وشرف وفضيلة، تربية قبل التعليم.. مَن منّا لم يسمعها في مدارسنا؟ مَن منّا لم تُثقل رأسه الصغير تلك العناوين الضخمة المُبهمة؟
في السنوات الأخيرة أُضيفت مهنة جديدة للمدارس: الإرشاد النفسي الذي تقوم بغالبيته موظفات إناث، لكننا نادراً ما سمعنا عمّن تقوم بعملها حقاً. الإرشاد، المساعدة، إنارة ضوء صغير في عتمة حالكة... في معظم المدارس، تنحشر في غرفة ضيقة، مرشدتان أو ثلاث أو أكثر، مع موجهات ومنشّطات ومعلّمات. لا خصوصية للأطفال ولا احترام لأسرارهم الصغيرة. كل شيء مُستباح، وصناديق الأسئلة المعلقة للحفاظ على أسرارهم الصغيرة، مليئة بالغبار، وبأسئلة لم تجد مَن يجيب عليها...
غرف إدارية معظمها مغلق. نميمة وثرثرة، تحيز وتفضيلات، والمعاملة تتغير وتتبدل بحسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي، تبعاً لمهنة الأب، أو الأم، وأحياناً، تبعاً للشكل!
قالها ابن خلدون قبل خمسة قرون: الشدّة على المتعلمين مُضرّة بهم. الآن، وَبعد كل هذا الوقت، ما زال أطفالنا يختبرون إساءاتٍ جسدية ونفسية، تنمراً وسخرية وصراخاً. نظام تربوي متخلّف وجامد، ونادراً ما يوجد مَن يُتقن الإصغاء، تقديم المساعدة، التعاطف والتضامن، أو مَن يعرف المحبة.
لو أن التلميذة التي انتحرت قبل أشهر، وجدت، في مدرستها الكبيرة المكتظة بالمربّين، مَن يرشدها، مَن يَطمئن له قلبُها الصغير، هل كانت ستتخذ القرار ذاته؟
في "دفتر مايا"، رواية إيزابيل الليندي، أدركت البطلة المراهقة، وبعد خوضها الكثير من التجارب السيئة، أمراً مهماً، أنّها بحاجة "بوبو". فهمت أنّه لو كان لكلٍّ منا بوبو خاص به، لما احتجنا أحداً، ولا حتى للعلاج النفسي. بوبو، في الرواية، هو جدها المتوفى الذي أحبها ووثق فيها وتقبّلها بلا شروط وبلا أحكام.. لأنَّ أفضل الفضائل تزدهر في الحنان، تقول مايا.
مَن منا عثر يوماً في مدرسته على بوبو الذي يحتاجه؟ بوبو يساعده، يمد يده ليرفعه كلما تعثّر؟ سنواتنا الأولى لم تكن أفضل من سنوات أولادنا ولا أوفر حظاً. حزن وخوف وخيبة، لكني لم أتصور أن يعيشوا تجربة مماثلة، وأن يعانوا مثلنا، وكأن شيئاً لم يتغير منذ عقود.
تمتلئ صفحات الفايسبوك هذه الأيام بصور تكريم المربّين، تكريم لدورهم في سير العمل التربوي. كثيرون جداً، رغم أن مَن يستحق التكريم قلّة قليلة، غالباً لا يلتفت نحوها أحد... ما الذي يجعل أولئكَ يغيّرون حيواتنا، يتحكمون في مصائرنا، كم كنا سنتغير لو أن مدارسنا تُربّي حقاً، تعتني، وَتهتم. لماذا يُسمح لأولئك بالتبجح بالشرف والفضيلة، بالمعرفة والفهم، بتقويم سلوكنا، وبإرشادنا وإرشاد أولادنا؟
ماذا لو أنه في ذلك الصباح، عندما ذهب إبني إلى المدرسة حاملاً كيساً مليئاً بأشياء صنعها وحده، بيديه الصغيرتين، أشياء صغيرة مذهلة، روبوت، سيارات، مروحية.. ماذا لو قيل له أنّه سيغدو مخترعاً عظيماً ذات يوم؟! ماذا لو أخبرَت المرشدة، التلميذ صاحب رسالة القلوب، أنّ مشاعره الرقيقة طبيعية جداً، وأن كلماته مؤثرة وثمينة، وأنّ باستطاعته يوماً أن يُصبح كاتباً أو شاعراً؟!
ماذا لو أنّه في يوم آتٍ، تَقرَّر البدء من البداية. وأصبح التضامن حجرَ الأساس في مدارسنا. وكل تلك الكلمات الكبيرة الفارغة، كل تلك الشعارات والهتافات، مُحيت من الذاكرة وعن الجدران، وكُتبت بدلاً منها عبارة واحدة فقط لغاليانو: "العَظَمة تكمن في الأمور الصغيرة، الأمور الضخمة مزيفة".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها