كلام حلاق الذي تسلم قيادة الوزارة العام 2021، جاء خلال حضوره اجتماع هيئة مكتب الإعداد والثقافة والإعلام في الحزب. وأفاد أن "بناء الخطاب الإعلامي الوطني هو مسؤولية مشتركة بين الحزب ووزارة الإعلام من خلال ترجمة الوزارة رؤية الحزب إلى سياسة إعلامية ينبثق عنها خطاب إعلامي وطني جامع يغطي كافة الصعد"، حسبما نقلت وسائل إعلام موالية.
ويعاني الإعلام السوري من مشاكل كثيرة، أبرزها عدم وجود تعددية حيث يمثل الإعلام الرسمي تحديداً صوت الدولة والحكومة فقط، ولهذا كان شعار "الإعلام السوري كاذب" واحداً من أولى الشعارات التي رفعها السوريون في ثورتهم المطالبة بالديموقراطية العام 2011.
ويحضر حزب "البعث" وتعاليمه في كافة تفاصيل الإعلام السوري، المكتوب والمرئي والمسموع، ويظهر قياديو الحزب وأنصاره على الشاشات لتقديم تحليلاتهم وأفكارهم، كما أن صحيفة "البعث" التابعة للحزب هي واحدة من ثلاثة صحف رسمية في البلاد فقط. وتحضر التربية البعثية حتى في البرامج الترفيهية والتعليقات الرياضية وغيرها من المضامين التي تسعى لنشر الأدلجة البعثية وتعزيزها.
ولا يخفي النظام السوري ذلك الوضع المأساوي لإعلامه بل بات يتفاخر به في وجه الانتقادات، وباتت التشكي من جودة الإعلام السوري أو السخرية منه تهمة تلاحق الأفراد بتهم مثل "وهن نفسية الأمة" فيما يشن إعلاميو النظام حملات تشويه سمعة على كل من ينتقد ذلك الإعلام، حتى من طرف الموالين أنفسهم أو من طرف صحف ووسائل إعلام حليفة، كما الحال مع الهجمات التي شنها عاملون في وزارة الإعلام
ضد صحيفة "الأخبار" اللبنانية العام 2021.
والحال أنه لا تتواجد وزارة مخصصة للإعلام في الدول الديموقراطية التي تتواجد فيها قيم نبيلة مثل حرية الرأي وحرية التعبير. ويرتبط وجود الوزارة بالدول الشمولية عموماً من أجل أغراض الرقابة السياسية والدعاية الرسمية، كما هو الحال في سوريا الأسد، والخلل في الإعلام السوري بالتالي هو خلل بنيوي يتعلق وجوده باستمرار المنظومة الأيديولوجية الحاكمة التي يجب التخلص منها.
وتم إنشاء وزارة جديدة للإعلام بمرسوم رئاسي في نيسان/أبريل الماضي، لتستبدل الوزارة القديمة التي تم إنشاؤها العام 1961، كي تمارس المهام نفسها بالإضافة إلى مهام جديدة كانت تمارسها أصلاً بشكل غير رسمي مثل الرقابة على الدراما ومواقع التواصل الاجتماعي والنشاط عبر الإنترنت، بشكل يفسر كيف يتم التحكم بالمعلومات في سوريا، حيث تمنح الوزارة التراخيص لوسائل الإعلام والمطبوعات ووسائل التواصل عبر الإنترنت ومواقع التواصل، كما تمنح الاعتمادت الخاصة المكاتب الإعلامية لوسائل الإعلام الخارجية، فيما تشرف على مراكز التدريب الإعلامي من أجل تأهيل كوادر جديدة من صانعي الدعاية الرسمية، وصولاً إلى الإشراف على مراكز البحوث الإعلامية واستقصاء الرأي لتقديم بيانات متحيزة، وإجراء التقييم الفكري للكتب والمخطوطات وإجازة تداولها وتصديرها.
وليس غريباً بالتالي أن يرى حلاق أن الوزارة ناجحة وأن الإعلام الوطني مثالي لأنه "واجه إمبراطوريات إعلامية عالمية وصمد أمامها واستطاع الدفاع عن صوابية موقف الدولة السورية" حسب تعبيره، وهي سردية تم تعميمها بعد الثورة السورية للقول أن الإعلام السوري ليس بحاجة إلى التغيير بل إلى "التقدير" من الجمهور "الجاحد"، في وقت أظهر الإعلاميون الموالون للنظام السوري عموماً لأكثر من عقد، رفضاً لأي انتقاد وصوروا أنفسهم كضحايا لمُغرضين وإعلاميين مأجورين، لأسباب سياسية أو لأسباب شخصية، لأن "الإعلام الوطني الشريف يذكّر الإعلاميين الخارجيين برخص الثمن الذي قبلوه أولاً لبيع شرفهم المهني"، وهي عبارة يكررها إعلاميون موالون في مواقع التواصل.
ومن المثير للضحك فعلاً قراءة تصريحات حلاق بأن "الإعلام السوري كان شريكاً وداعماً لكل المؤسسات الوطنية في مواجهة الحرب الاقتصادية. وشريكاً في عملية الإنتاج والتنمية وكان جسراً بين المواطن والمسؤول، عبر عرض قضايا الوطن والمواطن للنقاش العام في إطار المهنية والموضوعية وطرح الحلول بما يجعل الرأي العام شريكاً للحقائق والمعلومات".
يتناقض ذلك بشكل صارخ مع الحقيقة، لأن الإعلام السوري يعاني من مشاكل حاضرة منذ عقود، مثل اللغة الخشبية والتوجيه المسبق وتحوله إلى إعلام يحاكي نفسه ويجتر خطابه لعدم وجود جمهور يتابعه أصلاً، إضافة للطبيعة المافيوية التي تسيطر عليه من الداخل والتي جعلته يحافظ على نوعية سيئة من الخطاب الرديء من دون مواكبة الزمن أو محاولة كسر الجمود، حيث تحل العلاقات الشخصية مكان الكفاءات المهنية في تحصيل الوظائف والحفاظ عليها، فضلاً عن مشاكل التأخير في نشر المعلومات والتعتيم الإعلامي والشخصانية التي يتم بها التحرير والتوصيف، واستغباء الجمهور ومعاملته كمتلق يجب عليه تقبل ما يملى عليه كـ"واجب وطني".
يظهر ذلك في تصريحات عضو القيادة المركزية لحزب "البعث" سمير خضر في المناسبة نفسها، بأن مسؤولية الحزب هي "النهوض بواقع الإعداد والثقافة والإعلام حتى يرتقي إلى مستوى طموحاته وآمال الشعب والقواعد الحزبية" مبيناً أن "الإعداد والثقافة أحد أهم الأركان لأي حزب سياسي".
ولو كان كلام حلاق صحيحاً لما كان الضخ الإعلامي الرسمي أحادي الأجانب كما هو عليه في الواقع، حيث يتم تقديم صورة فوق واقعية لسوريا تعافت من "الأزمة" التي عاشتها وعادت الحياة فيها إلى "طبيعتها" بعد التخلص من "الخونة والإرهابيين". بالمقابل يتم التعتيم على كل ما هو سلبي أو تأطيره بأنه أخبار كاذبة ومضللة يقدمها "عملاء المؤامرة الكونية".
والغاية الأخيرة من ذلك طبعاً هو تعميم الصمت في البلاد والحفاظ على صورة براقة للسلطة التي يدعي الإعلام الرسمي أنها تقوم بمهامها الخدمية تحديداً، بشكل يعاكس الواقع المزري حيث يقبع 85% من السوريين تحت خط الفقر ويعاني أكثر من 60% منهم من انعدام الأمن الغذائي بحسب الأمم المتحدة، ما يعني حتماً وجود استياء شعبي إلى حد معين لا يلقى صدى في الإعلام الموجود.
وفيما كانت البلاد خالية من الإعلام الخاص طوال حكم الرئيس حافظ الأسد، فإن ابنه بشار بعد توليه الحكم العام 2000 سمح بإنشاء وسائل إعلام خاصة وإذاعات لا تخوض في السياسة، وكانت تلك الامتيازات تعطى بالدرجة الأولى لرجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، لا أكثر، ما خلق وهماً بوجود تحسن في الحريات الإعلامية، وأفضى لاحقاً إلى تسمية تلك الوسائل بـ"الإعلام شبه الرسمي".
وبعد الثورة السورية العام 2011 بستة أشهر، طرح النظام إصلاحات شكلية على قانون الإعلام ضمن حزمة إصلاحات لم يتم تطبيقها على أرض الواقع أصلاً. وبخصوص الإعلام تحديداً قام النظام بطرد مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية واعتمد على "الإعلام المقاوم" وأسس مجموعة من الناشطين الإعلاميين لمرافقة الجيش السوري والميليشيات الرديفة له ثم قام بتجميد الصلاحيات المعطاة لهم عندما بدأوا بتوجيه الانتقادات للحكومة في ملفات خدمية كالكهرباء وارتفاع الأسعار.
وتدريجياً بعد العام 2016 عاد المشهد الإعلامي في البلاد إلى ما كان عليه قبل الثورة، حيث يتم ضخ المعلومات عبر وسائل الإعلام الرسمية، لنسخها ولصقها في "الإعلام الخاص" شبه الرسمي، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تشرف عليها دوائر الأمن والمخابرات. والعام 2017 أصدر النظام السوري توجيهات داخلية تتضمن تقليلاً من النقد للمسؤولين والحديث عن الإيجابيات فقط.
وتصنف منظمة "مراسلون بلا حدود" سوريا في المرتبة 175 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة، ليس فقط بسبب قتل "الدولة السورية" للصحافيين المعارضين واعتقالها الموالين الناقدين وتكميم أفواههم، بل أيضاً بسبب نظرة "الدولة السورية" للإعلام في البلاد كجهاز من الأجهزة الحكومية، ما يجعل وظيفته تتلخص في نقل البيانات الرسمية، وممارسته للرقابة الشاملة على الفضاء العام، بشكل يختلف عن طبيعة الإعلام في الدول الديموقراطية، حيث يشكل مساحة للحوار والنقاش وكشف الفساد وتوجيه الانتقادات ومحاسبة السلطة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها