الأربعاء 2024/11/06

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

العرب في غُرف الصدى: يحتفلون بترامب بطلاً مُتخيلاً بالأمنيات

الأربعاء 2024/11/06
العرب في غُرف الصدى: يحتفلون بترامب بطلاً مُتخيلاً بالأمنيات
"فاز أبو لهب على حمّالة الحطب"، حسبما علّق البعض (Getty)
increase حجم الخط decrease
في العام 2016 عندما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هازماً منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون بعد حملة انتخابية قائمة على العنصرية وخطاب الكراهية، انتشرت عبارة "فاز أبو لهب على حمّالة الحطب" في مواقع التواصل الاجتماعي العربية. ولم يختلف الأمر هذا العام، مع انتشار العبارة نفسها للدلالة على فوز ترامب (شبه المؤكد) ضد منافسته الديموقراطية كامالا هاريس، بعد حملة انتخابية رفع فيها المرشح الجمهوري الطاعن في السن مستوى العنصرية والكراهية إلى درجة أتاحت مقارنته بخطاب ألمانيا النازية.


وللوهلة الأولى يبدو تكرار عبارة "أبو لهب" الآتية من التراث، وبرزت في "إكس" تحديداً، انعكاساً لحالة عربية لا تبالي فعلياً بهوية الرئيس الأميركي الجديد من وجهة نظر ترى أن جميع المرشحين الأميركيين "كفار" ويتساوون في السوء، بدلاً من الارتكاز إلى منطلق فكري أو تحليل سياسي يرصد تأثيرات الانتخابات في الشرق الأوسط المأزوم اليوم أكثر مما كان قبل عقد من الزمن.


وإن كان ذلك صحيحاً جزئياً، إلا أنه ليس شاملاً، لأن المعلّقين عموماً، ممن استخدموا تلك العبارة أو غيرها، يميلون إلى إسقاط أفكارهم ومعتقداتهم على نتيجة الانتخابات الأميركية، لتقديم نسختهم من العالم كما يرونه أو يحلمون به، سواء كان ذلك قائماً على الخوف أو الأمل، بشكل يتحدد ضمن سياق ثقافي أشمل يشهده العالم ككل منذ أكثر من عقد، وتُطلق عليه تسمية "Metamodernism"، وهو مصطلح لا ترجمة عربية دقيقة له ربما، لكنه تيار ثقافي شامل يعيد صياغة الأفكار والقيم و"المعنى" بطرق تتوافق مع احتياجات الأفراد الشخصية في عالم يموج بالمعاني المتضاربة، ولا يحضر فقط ضمن الخطاب السياسي بل أيضاً ضمن الأدب والفنون واللغة وأسلوب الحياة اليومية.

وضمن الـ"Metamodernism"، هناك عملية إعادة بناء لكل ما هو مفكك في سياق ما بعد الحداثة (Postmodernism) الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وطَرْح قيمٍ تشكل الإطار الأخلاقي للأفراد والمجتمعات بشكل يفسر الحروب الثقافية الحالية والتي كانت الانتخابات الأميركية المسرح الأبرز لها مع انقسام البلاد إلى معسكرين يحمل كل منهما فلسفة مغايرة تماماً بشأن شكل الولايات المتحدة المستقبلية، بين التقدم المجتمعي والرجعية المحافظة، بشكل يلامس حياة الأفراد اليومية، خصوصاً الفئات الأكثر ضعفاً، ويؤثر في حقوق الإجهاض والهوية الجندرية والحريات الجنسية وغيرها ضمن لائحة طويلة.

وإن كان ذلك السياق حاضراً في صميم السياسات الغربية، إلا أن صداه هو ما يصل فقط إلى الشرق الأوسط، الذي يمكن المجادلة بأنه لم يصل إلى عالم ما بعد الحداثة (PostModernism) بوصفه الإطار الثقافي الأشمل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومازالت النخب المثقفة في المنطقة المضطربة بالحروب والصراعات السياسية، تكافح حتى من أجل طرح قيم الحداثة نفسها (Modernism) في مجتمعات قد ترفض تلك الطروحات لصالح القيم الأكثر تقليدية والمرتبطة بالتفسيرات الدينية والقومية المبكرة، والتي كانت الحداثة في العالم الغربي في القرنين الـ18 والـ19 رفضاً لها ارتباطاً مع فصل الدين عن الدولة وما قدمته الثورة الفرنسية من أفكار حول بنية الدولة ككيان منفصل عن الدين.

يمكن تلمس ذلك في حالة الربيع العربي الذي انطلق العام 2010 من أجل العدالة والحرية، وانتهى ليفرز خطاباً إسلامياً متشدداً مقابل السلطات التقليدية والاستبدادية الحاكمة، مع بقاء النخب المدافعة عن الحريات الأشمل كأقليات تلاقي السخرية والتنكيل من الطرفين السابقين.


وظهور الـ"Metamodernism" الذي يصوغ الخطاب السياسي وردود الأفعال عليه، كما هو الحال في الانتخابات الأميركية اليوم، يرتبط بانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وثقافة الإنترنت، التي أعادت تقديم العالم مع "فلتر إنستغرام" بشكل قلل من صدامية "ما بعد الحداثة السابقة" وطرح القيم المرجوة من أي حرب ثقافية كنتيجة وردية مُسلَّم بها، بشكل يثير إعجاب من يؤمن بتلك الأفكار أصلاً وينفّر من يعارضها. وهو ما يعزز الفجوة بين الأطراف، بدلاً من ردمها، وهو أحد من تجليات غرف الصدى (Echochambers) التي خلقتها خوارزميات السوشال ميديا وجعلت الأفراد خلال العقدين الماضيين يعيشون ضمن عالم يختارونه بأنفسهم، ويضم الأفراد الذين يشبهونهم في التفكير، وبكبسة زر، يقصي عنهم الأفراد المختلفين ممن قد يكونون مزعجين.

وبسبب هذه النشأة فإن تأثير هذا الإطار الثقافي يحضر لدى المعلّقين العرب اليوم، لأنهم أيضاً لم يعودوا معزولين عن ذلك التأثير الذي دفعته في السابق وسائل الإعلام التقليدية، خصوصاً أن أنظمة الحكم الشمولية في المنطقة لطالما تحكمت في المعلومات طوال عقود. وبالتالي فإن التغريدات والمنشورات راهناً، تظهر نسخاً من عوالم خاصة بكل فرد، تتضمن القيم التي يتم إسقاطها على الانتخابات الأميركية، أو أي حدث عالمي آخر، سياسي أو رياضي مثل حفلة افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس الصيف الماضي، بشكل يظهر فجوة حتى مع واقع البلدان العربية نفسه، على مستوى البناء الاجتماعي.

وبما أن السخرية والفلترة الانتقائية تشكل أساسيات الـ"Metamodernism"، فإن ذلك السياق يقدم أجوبة لأسئلة كانت تطرح العام 2016 مثل: هل يحق للعرب أصلاً السخرية من الانتخابات كفعل ديموقراطي، في الولايات المتحدة أو أي بلاد أخرى، مع الأخذ في الاعتبار واقع الديكتاتوريات العربية وحُكم العسكر والإيديولوجيات الدينية، وغياب الثقافة الديموقراطية عن تاريخ المنطقة الحديث؟... أو كيف يمكن للعرب أن يدعموا ترامب ويبتهجوا بانتصاره بالنظر إلى قراراته السياسية وتصريحاته ضد العرب أنفسهم كفئة إثنية؟

والجواب هو أن أولئك الأفراد يختارون ما يريدون تصديقه ويقررون نسختهم من العالم الذي يعيشون فيه، وهو عالم لا يشكل فيه ترامب خطراً عليهم بقدر ما يحقق فيه أمنياتهم. وإن كان ذلك في العام 2016 يتعلق بنهاية الحرب في سوريا، على سبيل المثال، فإنه يصبح اليوم إنهاء حرب غزة أو وقف حرب لبنان، وغيرها من الأفكار بالتمني (Wishfull Thinking)، التي تتجاوز السياسة لتقديم وجهات نظر مجتمعية مثل الحجاب والحقوق الجندرية وغيرها، فيما يتم تأطير ذلك كله على أنه صراع بين الخير والشر، من وجهة نظر كل معلق على حدة، كما هو الحال المرشحين الأميركيين طوال حملتيهما الانتخابية خلال العام. المضحك أن ذلك الصراع السياسي لا يحدث في المنطقة العربية، حيث قلما نرى تداولاً للسلطة، خصوصاً في المشرق العربي حيث تعم الفوضى والحروب والنزاعات المسلحة.


وهنا يتم اختزال ذلك كله في عالم الإنترنت، لدرجة لا يصبح معها ترامب قائداً سياسياً ولا رئيساً لتيار فكري متعصب تم تقليده في معظم الديموقراطيات الغربية التي تعاني صعود تيارات اليمين المتطرف، بل رمزاً يتم تطويعه وعجنه لتقديم أفكار مختلفة، لأنه يمثل بالنسبة للمتلقي صفحة بيضاء يمكن ملؤها بأي شيء، حتى لو كان الرجل نفسه حاضراً في الانتخابات الرئاسية العام 2016 و2020، لأن إعادة بناء الصورة تبدأ منه شخصياً وتصب في السوشال ميديا التي تراه بطلاً أو خطراً، معادياً لإيران أو صديقاً لها، جاسوساً لروسيا أو الرجل القوي الذي يقف في وجهها، حامياً للنساء من أنفسهن أو خطراً على حقوقهن.

كل تلك الصفات وغيرها، تحضر معاً، بشكل يجعل من أي شخصية، بمثال ترامب اليوم، أشبه بـ"قطة شرودنغر" في إشارة للمفهوم الفيزيائي الذي قدمه العالم النمساوي إروين شرودنغر، ليشرح من خلاله تصوراً مختلفاً لميكانيكا الكمّ وتطبيقاتها اليومية قبل نحو مئة عام. هو حي وميت في الوقت نفسه، هو بطل وعدو في الوقت نفسه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها