الأربعاء 2024/08/21

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

الجَبّانة باب الجنة

الأربعاء 2024/08/21
الجَبّانة باب الجنة
"عرب، مقبرة، 1909" للروسي واسيلي كاندينسكي
increase حجم الخط decrease
أمُرُّ صغيرةً بـ"الجبَّانة" مُحاولةً استراق النظر إلى داخلها من فتحة بابها الضيق. "الجبَّانة"، هي مقبرة القرية التي صودف مكانها في الشارع الرئيسي المؤدي إلى الساحة. وبابها، رغم قلة زخرفته وبهتان لونه، مفتوح على حكايا الفواجع الملمومة في قبور تعالت فوق بعضها البعض على جلال، مغمورة بالريحان والورد وأشجار مثمرة، أغلبها من الرُّمان.

الباب موصد، هذا دليل استكانة أهلها. الموتى في الداخل يرتاحون في ظِلال الأشجار. معظمهم في هناء، ومنهم مَن يشعر بضيق جراء ازدحام فرضته الطقوس، أو وصايا ميتٍ لاحقٍ من الأقرباء والأحبة الذين لم تكفهم أيام الحياة الفانية، ورغبوا في حشر أجسادهم الآيلة إلى الرميم مع مَن أحبوا يوماً.

عساهم يريدون إكمال حديث انقطع في منتصفه. أو ربما فكروا أن حرارة الأرواح، لا تتأثر بتغير الظروف والمواضع، تبقى دافئة بعد انطفاء القلوب وبرود الأجسام. إنهم مبدعون في لجوئهم إلى أسلوب ماكر لمواجهة رطوبة التراب. مكرهم وديع، كمكر القطط الجميلة الشقية. مكرٌ ذنوبه مغفورة طالما أنه مدفوع بعواطف متفجرة، فمَن الذي ستكون له الطاقة على تفنيدها والتدقيق في أسبابها؟ عواطف كهذه، تُغَبُّ كالنسائم العليلة العائدة من ترحال الشوق بعد غياب. الموتى أذكياء. كأن عقول العارفين برحيلهم القريب تستنير بومضة تنبعث من الأرض.

الباب مفتوحٌ... هذا دليلُ بلبلة بين سكان "الجبَّانة". لو كان مفتوحاً وموارباً في آن واحد، فإن ذلك يثلج القلب. باب "الجبَّانة" يفتح جزئياً للسماح بدخول زائر واحد، أو زوار يتوالون إلى الداخل بخفة، واحدًا بعد الآخر، كي لا يقلقوا النفوس السارحة في فضائها. أما لو كان مفتوحاً على مصراعيه منذ الصباح، فإن جلبة التحضير لوافد جديد إلى مثواه الأخير تقلق نيام "الجبَّانة"... وتوهل العابر مثلي.

لم أدخلها ولا مرة واحدة. اكتظت "الجبَّانة" بأهلها، ولم يعد بابها طيِّعًا كما سبق، ولا أشجارها الوارفة مرحّبة. عندما حان دوري لزيارة المقابر، لم أحظ بفرصة عبور باب الجنَّة. عزائي أن المساحة الجديدة، رحبة مجاورة لعين ماء لطالما ملأت الأوعية ويديَّ منه، وغسلت الوحل عن أصابعي بمائه وعكَّرت مجراه بحجارة رميتها. القربُ من الماء يطمئنني إلى أن الخضرة غير بعيدة، ستنهض من الجوف وتنعش الوافدين إلى بطن هذه الأرض غير المأهولة. لا بدَّ من انتصاب الأشجار بعد سنوات، ليجلس في ظلها مشتاقٌ يخبر مَن غفل عن العيش، عن عناء التمسك بالفناء اللذيذ.

اليوم، وأنا في عاصمة نبتهل فيها إلى الشمس حينما تباركنا بأشعتنا، وجدت جبَّانتي.
استغرقني وقت طويلٌ قبل أن أدلف من بابها، مررت كثيراً بها وأكملت طريقي وأنا أحاول أن أبرر لنفسي سبب امتناعي عن دخولها. على عجلة من أمري أقول أن عبورها سيزيد عشر دقائق من وقت المسير. أنكر وأبتكر سبباً مختلفًا في كل مرة. لا أعترف لنفسي بأنه لا تزال لي زيارة مؤجلة لفقدٍ لم أقرُّ به بعد.

اليوم، ومنذ نحو عشرة أشهر، أدخلها كلما فاض قلبي. أقف عند قبور تُخبر شواهدُها عن راحلين صغار، عن آخرين عاشوا العمر وضعفه، ومنهم من وافى شريكه بعد سنوات فجاوَره. أحاول اقتفاء حكاياتهم من حجم قبورهم وزخرفتها، أسرح معهم في خيال ماضيهم، أصيغ لهم ذكريات من تفاصيل عمري ومن مخيَّلتي.

أقف عند قبورهم، أخبرهم عن أجِّنَّة اقتلعها القتَلة من أحشاء أمهاتها، هجَّروها إلى عالمهم. أشير لهم بيدي الملفوفة على شكل قبضة، كيف يُرفع الراحلون عن الأرض بأكياس، عن الأعمار التي تُقاس بوزن الأشلاء. أخبرهم عن ندب وصراخ وعويل وعين تصيبها رصاصة القاتل كي يحرمها الدمع. أتلو عليهم مواصفات الراحل في تلك البقعة من العالم الذي غادروه قبل أن يعرفوا أي شيء عنها.

أنبههم إلى أن هناك، لا يرحل المرء عندما ينضب ماء عينه. هناك لا يوجد رحيل... ذلك الرحيل الذي يأتي بعد وهن، بعد تعب من عيش يضجُّ بالأحلام والإخفاقات وقلب منفطر، ويبقى صداه لمن يأتي لاحقًا ليشهد. هناك لا يأتي الموت كما يعرفه هؤلاء المتثاقلون أمامي بين نواحي الفسحة الخضراء هذه. هناك، حيث تُقصف القبور أو تُجرف، حيث الصرخات بكماء، حيث لا أسود يُلبس ولونُ الأثواب من لون لحم الأجساد الممزقة، لا يأتي الموت.

أتنقل بين الممرات المستديرة حول الراقدين هنا منذ عقود، وأستغرق في شرح طقوس الموت من صلوات وشموع ووداع وحداد وحزن منسحب على يوميات الباقين في الأرض. أعيد التأكيد على مسامعهم، أن هذا الموت كما خبره الأحياء من بعدهم هنا، هو ما لا يعرفه المتروكون على الأرض هناك.

إن كان الموت جوهر الحياة ويُعرَّف من خلال الشاهدين على الرحيل منها، فلا موت هناك. لا يترك القتلُ مجالًا للموت حيث كلُّ شاهد على رحيلٍ قتيل.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها