أبدأ خطوات الصباح التقليدي في المطبخ، بحمل الهاتف بيد، استهلالًا لجولة تصفح التطبيقات والإشعارات، فيما أُعدّ باليد الأخرى القهوة لي والفطور لمن لا تزال شهيةُ الإقبال على الحياة، تربو في قلبه ومعدته.
مع مراعاة فارق التوقيت، رشقتني إشعارات الأخبار العاجلة عبر الهاتف والتعليقات في منصات التواصل، بأسئلة شتى، ما الذي جرى؟ كيف؟ وقفز سؤال الخوف من التداعيات، بعنف، إلى الواجهة. نهضت الإجابات في ثوانٍ بعزم، مُقدمةً لي معطيات كانت لا تزال في إطار التشكل حينها، لكنها معقولة للبدء في البناء عليها. وفي هذا شيء من الراحة.
لم يتعطل ذهني تمامًا من آثار الصدمة والمفاجأة. لكن سؤالًا بقي مختبئًا لساعات خلال اليوم الأول، وكأني نَحيْتُه عمدًا إلى الخلف لعدم جهوزيتي. ماذا أفعل؟ هل أنا صحافية اليوم وغدًا ودائمًا؟ هل أنا في إجازة؟ هل أكون صحافية إن لم أكن "منتمية" إلى غرفة تحرير ما؟
حاولت الحفاظ قدر الإمكان على أهمية الاستقرار الرتيب والالتزام بعادات يوم مماثل. أعالج بالعادي هول الحدث وضياع التجاوب القائم على الدور الواضح. التمسك بالمهام الكلاسيكية هو قوتي الخارقة، ألجأ إليها لإعفاء نفسي من سرعة الغرق في الذعر والشلل. بدا مناسبًا لي الاحتماء بالصمت، لأفكر. لكن هذه المرة، لن أحمل أفكاري إلى زملائي في غرفة التحرير... هل أفكر وأتحرك وحدي من غرفة الجلوس؟
لم أعش حربًا من خارج غرفة التحرير، أو بعيدًا من الميدان، منذ أن بلغت "سن الرشد". هذه الحرب، التي ترسم حدودًا فاصلة جديدة، في القيم، والسياسة، والجغرافيا، والتاريخ، تخط فواصلها في حياتنا المهنية والشخصية أيضًا. تغير فينا على نحو لا نعرفه يقينًا، الآن.
وفي هذه الحرب، أتعايش للمرة الأولى مع "الصحافية" التي لا تعرف أن تكون خلاف ذلك في الأحياز الأخرى. لا تتسرب هذه العبارة مني من دون أن تحمل معها الشعور بأن ذلك "نقيصة"... يَرِد إلينا الانطباع الأول عند ذِكر بعض الأشخاص، وكذلك بعض العبارات. أهمس بها، وأشعر بطعم السلبية التي تحملها في طياتها، مستقاة من المرات الكثيرة التي سمعت فيها زملاء رجالاً ينتقدون فيها "شغفي" و"حملي الأمور على نحو جدّي مبالغ فيه".. كيف لي، وبعد خبرة سنوات، التمسك بمنطق الصحافية بدلًا من التفكير أننا "في سوق، نبيع ونشتري خدمات لا نفع ولا طائل منها".
صحافية من خارج غرفة التحرير، وبعيدًا من الميدان إذًا!
هل هذا يجعلني "محظوظة" أكثر من غيري، أم يقذفني بعيدًا من دائرة "المألوف الآمن"؟ كيف سأُسَيّر تفكيرًا وحواس وأدوات أعمق من كينونة، وأكثر تجذرًا من طبيعة ثانية؟
"محظوظة"... لا شك أنه بعيدًا من "المقر"، بإمكاني حماية نفسي ولو جزئيًا من أهوال المتابعة غير المتقطعة، وامتحان حواسي وقدرتي الذهنية على الاحتمال والمواصلة والتوازن.
لكن الخشية من أن المساحة ليست متاحة لجسدي وعقلي للتعامل كما ينبغي، أو كما اعتادا في حالات مماثلة. "الطبيعي" مختلف. عقلي وجسدي يتصرفان وفق ما غدا ديناميات طبيعية وأصيلة بالنسبة لهما طوال السنوات الماضية، أغلب الظن على نحو غير حميد. يعرفان التحرك تلقائيًا في ظرف مماثل...تحت الضغط، تحت وطأة طمس المشاعر، تحت استعجال سحب الخوف إلى أعمق الرئتين كهواء ندوّره ليساعدنا على الكلام المباشر والمتواصل لساعات... ماذا أفعل في ظرف "غير طبيعي"؟
لي فرصة للهروب الآن. لي بقعة ضوء للتعافي من ترسبات آثار ما بعد الصدمة، لأَقِيها صدمات جديدة، لكني لا أعرف سبيلًا لذلك. أحتاج مساحة لأمارس فيها ما يهدئ من روع عقلي وجسدي. أن أتعامل مع الحرب من دون قبعتي الصحافية، يعني الانهيار كغيري والاستسلام إلى نوبات البكاء، والإقبال على سلسلة منشورات غير عقلانية... ولا أريد أن تصبح لي هشاشة "الجماهير" التي تغرق في فانتازيا أبو عبيدة، أو تكتئب فتمجّد "عَظَمة إسرائيل" التي "ستنتصر على المنتصرين".
أمام هلع وهستيريا من حولي، لا تحميني سوى "صحافيتي". لا هدوء لي سوى في تفاعلي مع الحرب من منطلق المساق الذي يضبط إيقاع انفعالاتي وهواجسي، من الحيز الذي أعرف فيه أن عدم سويتي واختلافي عن "الطبيعيين"، هو أمر حسن ومطلوب لضرورات المهنة. لا سكون لي سوى في العاديات. أنا صحافية ولو في غرفة الجلوس.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها