الإثنين 2024/08/19

آخر تحديث: 18:06 (بيروت)

كنتُ نائمة عندما ماتت أمي

الإثنين 2024/08/19
كنتُ نائمة عندما ماتت أمي
(اللوحة بريشة رولا الحسين)
increase حجم الخط decrease
ماتت أمي فجر يوم أحدٍ، خلال ساعاته الأولى، وقبل سطوع شمسه الحارقة. ماتت وأنا نائمة على كنبة قرب سريرها.
أربع بلاطات كانت تفصل بين سريرها وكنبتي، مئة وعشرون سنتمنتراً فصلت نومي عن موتها.
كان يوم أحد، وكنت على الكنبة. كانت تموت وكنت نائمة.

في الساعة الثالثة والدقيقة الأربعين من فجر ذاك الأحد/ استيقظت من نومٍ قصير غدرني، ودنوت منها فرأيت وسمعت آخر أنفاسها. كانت أنفاسًا كاذبة أعارتها إياها الماكينة التي بجانبها. كانت أمي قد ماتت قبل أن تتوقف أنفاسها. رأسها المائل إلى الجهة اليمنى وعيناها المغمضتان والصقيع الذي نما على أطرافها... علامات موتها. لم تفتح لي عينيها ولم تنظر إليّ كي تطمئنني وأنا أنادي عليها وهذا كان تأكيد موتها. أما الأنفاس المعدودة تلك فكانت حيلتها كي أصدق أني كنت مستيقظة قربها عندما ماتت.

صدّقت. وكان عليّ أن أسرع كي أوقط أخي ليصدق الأمر نفسه.

أيقظته بهدوء شديد تدربت عليه كثيرًا في الفترة السابقة لموتها، وطلبت منه أن ينهض من سريره، فسألني ماذا أريده أن يفعل وسيفعل. قلت "لا حبيبي ما عاد فيك تعمل شي... بعتقد ماما عم تموت حبيبي"، فقفز.

أبعدَ القناع عن وجهها. فتوقف النفس المستعار. لم تفتح له عينيها ولم تُوقف بكاءه. هشام لم يبكِ، بل شهق بكاءً. حضنني طويلًا. حضتنه طويلاً.

ثم لمستها أنا كثيراً، لمست أصابع يديها الطويلة التي تشبهها أصابع يدي، لمست وجهها الذي تحرّر أخيراً من قناع التنفس، لمست شعرها الذي رفعتَه لها وأبعدتَه عن وجهها قبل أن ننام، بل قبل أن أنام وقبل أن أظن أنها ستنام. لمست صقعتها.

كان عليّ أن أفعل الأمر الأصعب. الأمر الذي كررت فعله في رأسي لأكثر من سنة، كان عليّ أن أبلغ أختي النائمة في بلدٍ بعيد. لم أقل الكثير. عرفت رنا أن ماما ماتت بمجرد أن وصلتها مني فجرًا كلمة "حياتي".

لم أكن موجودة عندما بدأت أمي تموت. بل كنت موجودة على الكنبة قرب سريرها، لكن نائمة. نمت بتقديري لمدة ساعتين، تسلّل خلالهما الموت إلى جسدها تاركًا بعض أنفاسها لحين استقاظي. لم أعلم كيف استقبَلته. لم أسمع إنّ أنّت أو تأوهت أو نادتني همساً. أقول لنفسي لو أنها أنّت لكنتُ صحوت كما صحوت في الفجر السابق لفجر موتها. أتكهن أن الموت اقترب منها وهي نائمة من دون أن يوقظها تماماً، كما لم يوقظني. أود أن أصدق أن الموت لم يتسلّل بل فقط حصل من دون أن يأخذ وقته، فلم يرعبها وهي وحيدة وأنا بعيدة عنها مئة وعشرين سنتيمرًا.

أتخيل أنها ربما تكون رمقتني بنظرة من دون أن تتمكن من أن تئن لإيقاظي. ربما رمقتني كما كنت أرمقها بنظرات دامعة عندما كنت صغيرة وهي نائمةً متعبةً ومديرةً لي ظهرها في أمسيات مظلمة. ربما عاتَبتني بنظرات أخيرة على نومي أثناء موتها، كما عاتبَتها نظراتي في صغري على نومها أثناء عجزي عن حفظ بضعة أسطر من كتاب بلَّلته دموع عتبي ووحدتي والظلمة من حولي. كيف يمكن ألا يوقظ الموت بحضوره كل مَن في الغرفة؟ بل كل مَن في القرية؟ متى أصبح بهذه الخفة؟ كيف لا يستيقظ كل البشر عند اقتراب الموت من أحدهم؟ أختنق وأنا افكر كيف لم يوقظني موت أمي.

كلمة "موت" مناسبة لوصف اللحظة، التوقف. مَن كانوا أحياء قبل دقائق، ماتوا الآن. كانوا أحياء لعمرٍ، والآن في هذه اللحظة وقع الموت! كلمة موت هي وصفٍ لحالٍ مؤقتة، كلمة تقنية، كلمة خبريّة. بعد الموت يبدأ الاختفاء... ولا يتوقف. الاختفاء ليس خبراً. الاختفاء يبدأ بعد خبر الموت. أحياناً يبدأ بعد ساعات، وأحياناً بعد أيام. لكنه عندما يبدأ، لا يتوقف. على عكس الموت. أمي ماتت في تلك اللحظة من فجر ذاك الأحد، وبدأ اختفاؤها.

يأتي الموت ممهداً طريقه بالصقيع، ثم يختفي اللون، وتختفي النظرة وإن بقيت العينان. تختفي طراوة الجسد، تختفي اللمسة، يختفي النفس وخفقان القلب، تخفتي العقدة بين الحاجبين، تختفي الابتسامة، تختفي قبضة اليد على اليد ويختفي ضيق النفس... ثم يختفي الجسد وصاحبته. اختفت أمي من منزلنا.

أمي ماتت وأنا نائمة، ثم اختفت وأنا بكل صحوي. أراقب هذا الاختفاء وأعيشه كل لحظة. اختفت أمي وبقي السرير والكنبة، بقي التلفاز، بقيت ماكينة الأوكسيجين وعلب الأدوية وقمصان النوم وفرشاة الشعر. بقيت ربطة الشعر، بقي الموبايل، بقيت الفساتين الكثيرة، بقيت علب السجائر، بقيت وصفات الطعام، بقيت الصور والفيديوهات، بقي الشرشف الأبيض... آخر ما غطى جسدها النحيل. بقيت سلسلة الذهب التي وضعتُها قبل سنوات حول رقبتها ونقلتها ذاك الأحد حول رقبتي. اختفت ماما، وبقيت ملامح وجهها في مرآتي. أمي التي صارت أمي منذ الأزل، ماتت، وسيستمر اختفاءها إلى الأبد.

لكن أمي الحلوة بدأت بالاختفاء منذ سنوات، واختفى الكثير منها في السنتين الماضيتين، ثم اختفت أكثر في السنة الأخيرة، ثم في الأشهر والأسابيع الأخيرة، قبل أن يبدأ الاختفاء النهائي ذاك الأحد.

بدأ حزني على أمي قبل موتها بسنوات، استهلَكت تلك السنوات كل ذاك الحزن.
بدأ حزني عليها عندما بدأت أخسرها شيئاً فشيئاً مع بداية مرضها الذي أبلغتني بشأنه أختي منذ تسع سنوات، حين كنت أنا في بلاد بعيدة وأختي قربها. بدأ حزني عليها مع محاولات أختي اللجوجة لتحسين شروط حياة أمي. سنة بعد سنة، تلاشى نفس أمي أكثر، ولم تتوقف محاولات رنا.

خسرتُ أمي قبل أن تموت. خسرتها عندما أصبحَت عاجزة. عندما توقفت عن ارتداء فساتينها الكثيرة التي أهديتها معظمها، وعندما صغرت سُفرَتنا واقتصرت على صحن، وعندما اضطرت أن تأكل مما أطبخه لها، سواء أعجبها طعمه أم لا، وفي أغلب الأحيان لم يعجبها. لم تقل لي هذا، لكني أعرف لأني أنا أصلاً لم أحب طعم ما أطبخ، إذ لا يطابق طعم ما كانت تطبخه هي. خسرت أمي عندما في سنتها الأخيرة لم يعد بإمكانها الخروج، ليس من منزلها فحسب، بل من غرفتها. خسرتها عندما سقط من أصبعها الخاتم الذي ألبستها أياه.

لم أبكِ إلا في اليوم الأول، يوم الأحد، ومن بعدها لم أبكِ.
بكيت وهي مسجّاة أمامي، وأنا أنظر إلى وجهها الذي لم يعد وجهها، وأنا أستمع لدعاء الجوشن بأصوات صديقاتها. بكيت وأنا أنظر إلى كل من جلس حولها وبكى: فيروز ولينا وأم سماح وإنصاف وأمال وزينب وأم أيمن وأم وائل وأم هادي وأم شادي ونانا وغنوة وزينة وحنين وخديجة وعبير وخيرية وسهام وإخلاص وإيناس وسينا وهديل وهناء وهبة وهادية وفادية وشادية وسلام ونور... وبكيت وهم يحملونها بعيداً مني ومن بيتها وغرفتها وسريرها وتلفازها. بكيت فوق التراب الذي أصبحَت تحته. بكيت وأنا أحضن أخي الذي قال لي أننا "صرنا تلاتة". وبكيت مساءً عندما وصلت أختي بقلبها المحترق. بكيت إلى حين سلّمت رنا البكاء. ثم لم أبكِ بعدها.

لكني الآن، قبيل الفجر، أبكي وأنا أجلس على الكنبة في الغرفة المقابلة لما أصبحت غرفتها منذ حين، أنظر حيث كنت قد وضعت لها سريراً مؤقتاً. أنظر فلا أراها ولا أسمع صوت ماكيناتها. أنظر وقد اختفت أصوات أبطال مسلسلاتها التي طالما صرختُ طالبةً منها أن تخفضها. الغرفة مظلمة الآن وبابها مغلق، وأنا أشرب الشاي وحدي. أبكي وأنا أفكر في وجهها الذي كان مائلًا نحو الجهة اليمنى، نحو الكنبة التي تفصلها أربع بلاطات عن سريرها. وجهها كان مائلًا نحوي حيث كنت نائمة وحيث ربما أرسلت لي آخر نظراتها ولم أستقبلها.

ماما ماتت وأنا نائمة، وربما ماتت وهي نائمة، ثم بدأَت بالاختفاء وأنا صاحية. وأنا الآن على كنبتي، سأبكي طويلاً هذا الاختفاء الطويل. 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها