الثلاثاء 2024/11/12

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

لسنا أحراراً في الأسواق الحرة

الثلاثاء 2024/11/12
لسنا أحراراً في الأسواق الحرة
"سوريالية" (عن europosters)
increase حجم الخط decrease
كان عمري 17 عامًا عندما سافرت بالطائرة للمرة الأولى. كنت مع مجموعة كشفية وكانت الوجهة فرنسا، لورد تحديدًا. لا أذكر الكثير عن تجربة المطار لأنه كان لدينا مَن يهتم بشؤون ولوجستيات المطار. لكني أذكر ابتسامتي، بل ضحكتي العريضة المتبادلة مع رفاقي ورفيقاتي، ونظراتي السعيدة بأني أغادر خط "حارة حريك – اللوبية". كنت قد سافرت قبلها برّاً حين كان عمري 15 عامًا إلى تركيا، بورصة تحديدًا، مع المدرسة للمشاركة في مهرجان الرقص الفولكلوري، لكن تلك قصة أخرى.

ومنذ أن كبرت وسافرت للعمل في عدد من البلدان، أي منذ العام 2003 ولغاية 2021، سافرت بالطائرة على الأقل ثلاث مرات سنويًا. بعض المطارات صارت التجربة فيها مألوفة، وفي بعضها معدومة، وفي بعض المطارات التجربة غير مرغوبة، كتجربة المرور بمطار بيروت الذي كان نقطة الوصول والانطلاق في كثيرٍ من رحلاتي... لكن ليس كلها. أما المطارات الأخرى، المطارات الكبيرة تحديدًا، فكانت أكبر مني.

أنتظر الآن في أحد المقاهي التركية في مطار صبيحة في اسطنبول، لحين وصول طائرتي التي ستطير بي إلى برلين، أجلس منتظرة في طابقٍ أول يطل على الطابق الأرضي وعلى حركة المسافرين فيه. أنا في المطار بعد ثلاث سنوات على  آخر رحلة لي، من اسطنبول إلى بيروت، بل إلى قريتي الجنوبية اللوبية. كانت رحلة عودتي النهائية من اسطنبول، بعد إقامتي فيها خمس سنوات، وشاركتني الرحلة أمي التي كانت قد زارتني لمدة 43 يومًا.

أبحث عن سعر صرف العملة. قبل ثلال سنوات كان مختلفاً تماماً. كان الدولار بالكاد يوازي العشر ليرات، أما الآن فوصل إلى 33 ليرة. مطار صبيحة لا يؤمّن إلا نصف ساعة انترنت، بعدها أنت مفصول عن العالم. ولتتفاعل مع العالم الداخلي للمطار، يصبح سعر الصرف مهماً.

الرغبة في الإنفاق تتعاظم في الأسواق الحرة. تخدعك كلمة "حرة". تجعلك تظن أنك حر من التزامات ما يقع خارجها. DUTY FREE تخدعك أكثر. تعطيك انطباعًا مؤقتًا وزائفًا بأن كل شي هنا FREE وليس عليك أي DUTY. فرغم حرصك ما قبل الرحلة على ما ستنفقه خلال في الرحلة، إلا أنك تتحرر من هذا الحرص فيما تُمرّر الوقت الضائع في أسواق المطار ومطاعمه. تأنيب الضمير يأتي لاحقًا، ولا تتحرر منه إلا أثناء الشراء، حين يحل مكانه الأدرينالين.

قبل كل رحلة لي كنت أقول لنفسي سآخد معي أغراضاً قليلة، لكني لا أنجح. ورغم أني أرتب الحقيبة في رأسي قبل أن أبدأ بتوضيبها فعليًا، غير أني أصاب برعب أن أرغب، عند الوصول إلى وجهتي، في ارتداء شيء ما ولا أجده. هذه المرة أيضاً، وضبتُ أغراضاً كثيرة. حقيبة كبيرة، وأخرى صغيرة باليَد. لا يمكن أقل. وأكثر ما شغل بالي: ماذا سأرتدي لهذه الرحلة؟ غالباً أختار لونَي الكحلي والأبيض، والكحلي يتضمن الجينز. هذا يعني أن حقيبة الظهر يجب أن تكون كحلية أيضاً، وأي جزدان أخر. احترت هذه المرة، بينه وبين الأسود. أنا لا أرتدي الأسود عادة. لكني أرتدي الأسود منذ وفاة أمي، أضيف إليه الأبيض أحياناً أو الجينز. حقيبة الظهر السوداء أصغر من الكحلية وأحتاجها كبيرة لتتسع للابتوب. وأنا لن أستمر أصلًا في ارتداء الأسود. توقيت هذه الرحلة عند أختي في برلين، بعد ذكرى الأربعين، تحررني من الأسود الذي أصلًا لم يُلزمني أحد بارتدائه. احتجتُ للأسود خلال تلك الفترة. وربما عندما أعود من رحلتي سأعود إليه. أخيراً، اخترتُ الكحلي مع الأبيض والجينز.

لون شنطة سَفري رصاصي، من ماركة "نورث فايس". اشتريتها عندما غادرت قطر، قبل تسع سنوات، هدية لي. ولا أستخدم غيرها خلال السفر، وتليق بالأسود والكحلي. اتساق ألوان الحقائب مع بعضها البعض، ومع حقيبة الظهر ومع الملابس، وصولًا للملابس الداخلية، مريح جدًا لي. لا يمكن أن أرتاح قبل أن أنسقها كلها عند اختيارها قبل السفر. صحيح أني أخذت ملابس كثيرة، لكني بعدما وضعت الكبيرة في الشحن كانت شنطة ظهري و"الكاري أون" خفيفة نوعًا ما، وغير مربك نقلهما وحملهما. حملت "كروس باغ" صغير جدًا لأضع فيه جواز السفر وعلكة  وموبايلي وبعض المال.

أراقب النساء أكثر من غيرهن في المطارات، وأستغرب من اللواتي وضعن المكياج لرحلة تبدأ الساعة التاسعة صباحًا، ومن اللواتي لا يرتدين ملابس مريحة. أو اللواتي وضعن أغراضهن في أكياس أو حقائب ألوانها وأشكالها غير متناسقة، أو اللواتي لم يرتبن أمورهن بما فيه الكفاية ودون الأخذ بعين الاعتبار ما سيتوجب عليهن فعله في المطار من حمل الحقائب أكثر من مرة ووضعها في السكانر التي لن تقبل مقصًا أو قنينة عطر أو ماء. لم أكن ملمّة بكل تلك الأمور في رحلاتي الأولى، لكنها أمور نتعلمها ونتقنها سريعًا، بعضنا يفعل ذلك وأنا منهم.

فيما أمشي من الطائرة التي حطت لساعات ترانزيت قليلة، أبحث عمّن لا يعرفون أين يتجهون، ولا يعرفون ماذا، وأين يقرأون التعليمات القليلة وبلغات قد تكون غريبة. دائمًا أجدهم. "إلحقا اللون الأزرق، سيوصلكما إلى حيث يجب أن تكونا"، أقول لامرأة ورجل يبحثان عن الاتجاه بعدما وجدته أنا نفسي بصعوبة. أبحث عمّن لا يعرفون كيف يستهدون إلى رقم البوابة، والذين لا يعرفون ماذا يقرأون عندما لا تُظهر الشاشة رقم البوابة لأن الوقت ما زال مبكرًا.

أفكر كيف سيتمكن هؤلاء من فهم كل تلك الرموز؟ من هنا التواليت، وهذا مقعد النافذة، من هنا ممر الترانزيت ومن هنا التحقق من جوازات السفر، ومن هنا يمر أصحاب تلك الجنسية، وعلى هذا الحزام ستجد شنطتك، وهنا ستنتظر، وهنا تعرف متى ستُحدد بوابة طياراتك التالية.

أفكر في ماما عندما زارتني آخر مرة في اسطنبول، وانتظرت أكثر من ساعتين في المطار لأن أحدًا لم يساعدها، رغم أن أختي حرصت على طلب تلك الخدمة. انتظرتُها في الخارج، وهي في المطار مع موبايل لم أتمكن من التواصل معها عليه ولا من الدخول إلى حيث كان يمكن أن تكون، وحيث يفترض تواجد الموظفين المكلفين بتأمين خدمة نقلها من الطيارة إلى الخارج حيث أقف، فهم لم يقوموا بوظيفتهم. كانت ساعات صعبة على ماما، حاولتُ أن أنسيها إياها طيلة رحلتها، ثم قررنا معًا أن ننسى ما حصل، لكني لم أنسَ نظرتها العاجزة عندما تمكنت من الخروج. امرأة في منتصف الستينات، لا تتحدث غير العربية، مريضة لا يمكنها أن تمشي إلا خطوات قليلة. أمّ كانت تثق بما رتبته لها ابنتاها ثم وجدت نفسها وحيدة وضائعة وبحاجة للتدخين، ولا شك خائفة.

لم تكن رحلة أمي الأولى. زارتنا، أختي وأنا في اسطنبول، قبل الزيارة الأخيرة، لكنها كانت زيارة ميسّرة. لعلها ظنت أن الأخيرة ستكون ميسرة، كما ظننّا أختي وأنا. وقبلها، زارتنا في دبي. وإحدى زياراتها إلى دبي كانت مع أبي. التواجد في مطار دبي أسهل، رغم حجمه الكبير، لأن الإرشادات باللغة العربية.

أمهات كثيرات في المطار مع أطفالهن. معظمهن أصبحت لديهن خبرة في التعامل مع الاجراءات ومع ما يتطلبه المطار. مَن يحمل ماذا، ماذا يرتدون، مَن يفعل ماذا كي يمر هذا الوقت بأقل صعوبات ممكنة. أفكر في الأولاد، كيف سيكتسبون مهارة أهلهم في التعامل بعمليةٍ مع رحلة المطار، بعضهم قد يكتسب قلة مهارة أهله أيضًا.

بعد انتظار ساعات قليلة، طرتُ ووصلت إلى مطار برلين، وانتبهت بعد دقائق من مغادرة الطائرة أني نسيت سترتي الكحلية فيها. فكرة العودة والبحث لم تكن ممكنة. بالكاد تمكنت من تدبر أمري في مطار جديد تطأه قدماي للمرة الأولى. لم أضيّع طريقي وتدبرت أموري بسهولة تامة، لكني شعرت برهبة مَن لا يعرف كيف يتحرك. تذكرت كيف يصيبني رهاب السوبرماركت الكبير. عندما تضيع مني أختي، أو أضيع منها في الممرات. أقف مكاني ثم أصرخ باسمها فتسرع نحو الصوت لأنها تعلم برُهابي.

أبحث في المطارات عن الصغار مثلي، لأخفف وطأة رهابها عليهم. ألتقطهم بلا جهد. رداراتي تدلني عليهم. أترجم كلمة لأحدهم، أجد لآخر رقم البوابة، أَدلّ على الاتجاه، أُجلِس بحسب رقم المقعد... وأحيانًا فقط أبتسم.

المطارات كبيرة عليّ، وإن تدبرتُ أموري جيدًا فيها. أنا صغيرة جدًا في المطارات، طفلة تحتاج طمأنة ربما، على شكل ابتسامة، كما يحتاج الكثيرون، كما احتاجت أمي في مطارها الأخير.

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها