في قلبي فجوة. في روحي فجوة. في المنطقة التي يحتلها قفصي الصدري، فجوة. عرفتُ بأمرها منذ سنوات طويلة. في سن الـ21 كتبتُ: "الفجوة التي أحدثها القلق في صدري اتسعت، صارت أكبر من غرفتي، نقلتُ أمتعتي وسكنت فيها". يبدو أني كنت أظن أن القلق هو سبب فجوتي. القلقون يبدأون قلقهم في سنٍّ مبكرة، ولا أنكر أني كنت – وما زلت - كائناً قلقاً، لكن لا علاقة بين قلقي وفجوتي. أعرف هذا الآن.
حتى أني أستغرب الآن أني شعرت حينها بالفجوة. استغرقتُ وقتاً طويلاً لأُعيد ملاحظة وتشخيص ما لاحظته وشخّصته باكراً.
فجوتي عميقة وواسعة، مركزها الصدر. لكنها لا تكتفي بمركزها. تنتشر، تنفلش، تتوسع... وأشعر بها أحياناً في أطراف قدميّ، فلا أتوقف عن قص أظافر أصابع قدميّ لعلّي أحدُّ من توسعها، أو أؤلمها فتتراجع قليلاً. تمتد الفجوة التي تسكنني، إلى خارج جسمي، فتصل لأغراضي. ويحدث أن أمسك بغرضٍ من تلك الأغراض التي سبقتني إليها فجوتي، فيذوب بين يديّ... مُنهَكاً، مجوّفاً وأسود.
أملأ فجوتي بالكثير من الحلوى والخبز والهامبرغر والفساتين والأحذية والحقائب والألوان، وبالرقص والشمس والبحر والويسكي والبيرة... لكنها فجوة أصيلة، حُفرت منذ زمنٍ وعلى مداره، فلن أنجح في ردمها بغير مادة جوهرها ومسبّبها.
الفجوة تبتلع كل ما أرميه فيها، إنها الثقب الأسود خاصّتي، وبسبب عمقها أستطيع أن أسمع صدى ارتطام كل ما أرميه فيها. لا شيء يشبعها أكثر من دقائق. لا شيء يملأها. على الأقل، لا شيء بحوزتي يمكن أن يردمها.
كل ما يأتي من الخارج طفيليٌّ ومنفّرٌ وغير مرغوبٍ فيه... أعرف مسبقاً وجيداً أنه لن يملأ فجوتي. سيكون مجرد صدىً آخر لارتطام آخر، ولن يفعل سوى تأكيد عمقها.
كل محاولات الآخرين غير المرحب بها، هي مجرد تذكير، وكل تذكير يزيد رقعة ثقبي الأسود. ابتَلَع هذا الثقب كل أعضائي. أتفرج عليه الآن وهو يبتلع قلبي، كما تفرجتُ عليه حين ابتَلَع روحي. في أوقات قليلة، يدير لي هذا الثقب ظهره، غاضّاً نظره عني، فأستعيد إحساسي بيديّ وباللمسات المخبأة فيهما. أتحسّس وجهي، أتحسّس يدي الأخرى، وأشعر أن شيئًا ما، ما زال موجود، لم يُبتلع، فقدَ الذاكرة ربما، لكنه موجود. لو أطيل فترة اللمس قليلاً، لو ترأف بي فجوتي وتنشغل عني أكثر، لربما تتمكن روحي من التذكّر أكثر.
أضع يدي على فتحة الفجوة، أتفقدها، أذكّرها بوجودي، وأحياناً أمسّدها كمَن يدهن مرهماً على جرحٍ ملتهبٍ.
كلما اتسعت فجوتي، أصبحتُ أقلّْ. أقِلُّ كل يوم، كلُّ يومٍ أقِلُّ.
في ساعتين من الزمن يوميّاً، أنسى فجوتي أو لا أشعر بعمقها الحقيقي. ساعاتان أشاهد خلالهما من كنبتي، فيلماً، فرنسياً قديماً على الأغلب، فأغادر فجوتي أو تغادرني.
Godard, Truffout, Rohmer, Leluoch, Malle, Sautet يردمون، كلّ مساء، فجوتي، لزمنٍ محدودٍ، زمن الفيلم. كثافة كل ما أشاهد من جمال وحبّ واحتمالات محقّقة تملأ ثقب روحي. الشعاع الأخضر الذي تخلّفه شمس la rayon vert يحتل سواد الثقب القلبي ويُخضِره. المسافة التي يقطعها Jean Louis ليفاجئ Anne بعدما باحت بحبها في فيلم Un homme et une femme تُخجل فجوتي وتحدّ من توسعها. وعندما طلبMichel من Patricia في فيلم A bout de souffle أن تريه أصابع قدميها، وأن تخلع سترتها، بعد إلحاحها عليه ليجيب كما ويليام فاغنر إن كان يختار بين الحزن أو اللاشيء، أجابها ميشيل وهو يمرّر يده على شعرها غير آبه بفاغنر وخياراته أنه يفضل العدم/اللاشيء على الحزن لأن الحزن تافه، وفيه مساومة، وهو يفضل ألّا يساوم ويذهب ببعض الأمور إلى آخرها... يخبرها أنه يدرك هذا الأمر الآن وهو ينظر إلى رقبتها وكتفيها ووجهها، فيغمر بنظراته فجوتي التي أصبحت بحجم جسمي وبيتي والحي الذي يقع فيه بيتي.
توهمني هذه الأفلام أن الاحتمالات المختبئة في مكان ما، واردة التحقق. في أحد ممرات السوبرماركت، في رسالة الـothers في الماسينجر، في ازدحام السير، في الغريب الذي ضل طريقه ويبحث عمن يرشده على عنوان. توهمني هذه الأفلام أني لست الوحيدة في انتظاري للاحتمالات، وأن غيري كُثر. ثم وبعد أن ينتهي الفيلم الوهم، أنتبه أن الزمن الذي سرقتُ منه وَهمي لم يعد موجوداً، وأن هذا بالتحديد ما سبّب فجوتي، ولهذا نقلت أمتعتي وسكنت فيها منذ سنوات.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها