الجمعة 2024/07/26

آخر تحديث: 15:36 (بيروت)

أطفال يعتاشون على جبل القمامة في إدلب...اقتصاد "وادي الموت"

الجمعة 2024/07/26
أطفال يعتاشون على جبل القمامة في إدلب...اقتصاد "وادي الموت"
الطفل عبدالله في تقرير "بزنس إنسايدر"
increase حجم الخط decrease
لا يكتفي التقرير الذي أعده موقع "بزنس إنسايدر" عن العمل في النفايات في شمال سوريا، بتظهير حال الحياة في البلد المنهار بعد 13 سنة من الحرب، بل يبرز أيضاً الفارق بين الإعلام المحترف، والإعلام الهاوي الذي نشأ في سوريا بعد الثورة ولم ينجح في عرض هذه النوعية من القصص المؤثرة عن حياة الناس، خصوصاً بعد هدوء جبهات الحرب في السنوات الأخيرة والميل إلى صراع مجمد لم يكسب فيه أحد السلطة بل تَشَارك فيه الكل الخراب.

والتقرير المنشور في أيار/مايو الماضي، انتشر بشكل واسع في "أنستغرام"، هذا الأسبوع، بعد نشر مقاطع فيديو مؤثرة منه بشكل قصص فردية قصيرة، مصورة بإتقان لروايات لا يتحدث عنها أحد تقريباً في سوريا، قصص المهمشين والفقراء، ممن يعملون في نبش مكبات النفايات من أجل البحث عما يمكن بيعه، من معادن أو مواد قابلة لإعادة التدوير، ويصعب إيفاء مهمة "نبش القمامة" وصفها، وهي التي يتولاها في التقرير أطفالٌ لا تتجاوز أعمارهم 11 عاماً، ممن ولدوا بعد الحرب في البلاد، وكان ذنبهم الوحيد هو القدوم إلى العالم في المكان والزمانين الخاطئين.


يغني عبد الله، الطفل الذي سلط الموقع الأميركي الضوء عليه، بصوت أجش عن قسوة الحياة، يبدو ذلك لطيفاً للوهلة الأولى لكن صوته يتحشرج ببكاء مكتوم عندما يصمت ويبعد نظره عن الكاميرا كي يقول: "هكذا هي الحياة"، موضحاً أن لا أصدقاء لديه، يعمل 12 ساعة في اليوم لإعانة عائلته في مكب للنفايات بمدينة إدلب شمال غربي سوريا، والذي كان في السابق مقلعاً للحجارة، فيما يعرض التقرير أيضاً قصصاً لأفراد آخرين.

ورغم أن وسائل إعلام سورية معارضة سلطت الضوء على القضية منذ العام 2019، إلا أنها تبدو بسيطة وغير مؤثرة مقارنة بالاحترافية والإغراق في الواقعية المقدم في تقرير "بزنس إنسايدر" الذي يتجه بالفعل إلى مكبات النفايات لتوثيق لحظات العمل المضنية هناك، بعكس التقارير المحلية التي تتحدث مع أبطال تلك القصص بعيداً من مكان عملهم، أو بشكل مكتوب تقريري خال من الصوت الإنساني، أو من دون تقديم إضافات تجعل المتابع يفهم قصصهم، مقارنة بالتركيز على سردية راديكالية للحياة في سوريا تقوم على مبدأ النظام ضد المعارضة وتلوم كل شيء يحدث في البلاد على ذلك الصراع، بشكل بات قديماً وغير مناسب أصلاً لوصف حالة السوريين المعيشية والاجتماعية اليوم.

واللقطة الأولى من التقرير تحديداً، عندما تتقدم شاحنة النفايات لرمي ما تحمله فوق جبل التفايات الذي يبلغ ارتفاعه اليوم نحو 25 متراً، تذكر بعشرات اللقطات المماثلة في سلاسل "الأنمي" اليابانية مثل "Yu-Gi-Oh! 5D's" والأفلام والقصص التي تدور في أجواء ديستوبية، لكن الفارق أن اللقطة المغرقة في واقعيتها من دون تجميل أو صوت إضافي، تظهر الحزن واليأس السائد في بلاد منهارة اقتصادياً حيث يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر بحسب الأمم المتحدة، بينما يعاني أكثر من 60% منهم انعدام الأمن الغذائي، وهي أرقام تتكرر باستمرار في الأخبار لكن رؤية من يعاني بالصوت والصورة، تشكل تجربة مختلفة وأكثر تأثيراً وصدمة.


وفي ذلك الجبل من النفايات، يتواجد عبد الله الذي يخشى أن يدفن حياً في أحد الأيام ويموت هناك من دون أن يعرف بمصيره أحد، وهي حوادث تكررت في السنوات الأخيرة وانتشرت عنها أخبار بسيطة في وسائل الإعلام وغابت بسرعة عن الذاكرة. لكن مشهد تهاوي القمامة من القمة إلى القاع، وصوتها وسحابة الغبار التي يكاد المشاهد يشمّ رائحتها السامة القبيحة عبر الشاشة، تنقل القصة كلها إلى سياق مختلف تماماً، ويصبح الأمر أسوأ عند رؤية مشاهد الأطفال وهم يحملون القنابل والقذائف والأشلاء وغيرها.

ومكب النفايات المروع هذا كان يعرف طوال سنوات بـ"وادي الموت" لأنه مكان يسهل فيه إلقاء الجثث، ووثقت تقارير حقوقية وجود أكثر من 150 جثة على الأقل لأشخاص اعتقلوا وعذبوا وقتلوا وألقيت جثثهم في هذا المكان بعد اتهامهم بالعمالة للنظام السوري أو لتنظيم "داعش"، أو جثث مدنيين عاديين، وذلك على أيدي الفصائل الإسلامية التي تنشط في المنطقة بما في ذلك "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً).

وأوضحت تقارير ذات صلة أن أولئك الأطفال معرضون لأخطار صحية كبيرة من العمل في بيئة غير آمنة تحتوي على بقايا الطعام والأطعمة التالفة والحيوانات الميتة وفوط الأطفال المتسخة، وفضلات الحيوانات، والأثاث التالف، والركام الناجم عن انهيار أو هدم المباني، إضافة إلى الفضلات الطبية، مثل المحاقن، والإبر، والمباضع والشفرات المستعملة، والمواد الكيماوية المستعملة في الطب مثل المواد المطهّرة وغيرها، تعرّض الشخص العامل في جمع النفايات لأمراض متعددة تبدأ بالكزاز والكوليرا ولا تنتهي بالالتهابات.

ويعيش في إدلب اليوم نحو 4.5 ملايين شخص معظمهم من المهجرين السوريين الذين لجأوا إلى المحافظة بعد سنوات من الحرب تعرضوا فيها لقصف الطيران السوري والروسي ولهجمات الميليشيات الحليفة بما في ذلك الإيرانية، ويعيش معظمهم في أكثر من 1500 مخيم للنازحين في المحافظة التي تديرها "هيئة تحرير الشام" الجهادية، ولا يتوافر في تلك البيئة نظام تعليم أو عمل أو حياة طبيعية.

والهاوية التي يعيش فيها أولئك المهمشون البؤساء، لا قاع لها، لأن حياتهم الطبيعية انتهت عندما قصف الجيش السوري نفسه بيوتهم ولاحقهم وأراد تصفيتهم، لمجرد أنهم كانوا موجودين في مكان حمل صفة المعارضة، حتى لو كان أولئك الأفراد مدنيين لا علاقة لهم بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد. والد عبدالله الذي كان يعيش قرب العاصمة دمشق فقد عمله ولم يعد قادراً على إيجاد عمل جديد رغم بحثه عنه، وفي هذا المناخ الذي يشمل الملايين من أمثاله، باتت عمالة الأطفال تشكل عموداً لاقتصاد بديل، مؤلم وهش ولا يغطي الحاجات الأساسية، فيما يترك ندوباً وجروحاً فعلية في الأجساد الصغيرة وجروحاً أعمق في أرواحهم الحزينة وأحلامهم المحطمة.

والفارق بين التقرير الأميركي والتقارير المحلية، لا يعني أن الأخيرة مقصرة في أداء عملها، بل تظهر الفارق في التدريب والاحترافية ضمن البيئة المهنية نفسها. وتجربة الإعلام السوري البديل ككل قامت أساساً على أيدي ناشطين معارضين لم يكونوا في الأغلب صحافيين محترفين، كان التمويل وفرص التدريب والعمل، متفاوتة في كميتها وجودتها على مر السنين، وأدت التجربة ككل إلى وجود سردية بديلة للسوريين أنفسهم بعيداً عن الإعلام السوري الرسمي، من دون أن يتجاوز تأثيرها الجانب المحلي إلا نادراً.

ولسنوات، كان الإعلام المعارض مصدراً شبه وحيد للمعلومات في سوريا، وعمل فيه ناشطون مستقلون ومدوّنون وأشخاص لم تكن مهنتهم الصحافة في بلد شمولي يشكل فيه الإعلام ناطقاً باسم السلطة لا أكثر، منذ ستينيات القرن الماضي على الأقل، بشكل تفاقم بعد الانقلاب العسكري الذي أوصل عائلة الأسد للسلطة العام 1970، خصوصاً أن النظام بعد العام 2011، اعتبر الثورة "فبركة إعلامية" وطرد مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية تباعاً بتهمة "التحريض"، واعتمد على "الإعلام المقاوم" لإيصال وجهة نظره عن الأحداث في البلاد، معززاً ضخ البروباغندا الرسمية عبر الدراما ومواقع التواصل إلى جانب الإعلام التقليدي.

ورغم ذلك، فإن أداء وسائل الإعلام البديلة كان متفاوتاً من الناحية المهنية، ولطالما واجهت انتقادات بسبب طبيعة تمويلها، رغم أن التمويل بحد ذاته لا يشكل تهمة كونه يعتبر عصب الإعلام المعاصر حتى في الدول الغربية حيث تعاني المؤسسات الإعلامية مشاكل اقتصادية في عصر السوشيال ميديا. ومع ذلك، وُصفت وسائل إعلام وصحافيون وناشطون بالعملاء لجهات خارجية، ليس فقط من قِبل النظام السوري والموالين له كما هو متوقع، بل حتى ضمن المعارضين أنفسهم مع تشتت المعارضة سياسياً بالدرجة الأولى.


والحال أن عدد وسائل الإعلام السورية بعد الثورة زاد عن 600، في فترة من الفترات، تنوعت بين مطبوعات وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية، تحت مسمى "الإعلام السوري البديل"، إلا أن معظم تلك الوسائل توقف عن العمل لأسباب تتعلق بالجوانب المادية بالدرجة الأولى. و كانت تلك المشاريع، التي أشرف عليها ناشطون محليون، رد فعل طبيعياً على عقود من قمع حرية التعبير وتدجين الإعلام في سوريا الأسد. كما كانت الطريقة الوحيدة لبث ما يجري في سوريا من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلى العالم.

وتوصلت دراسة أعدتها مؤسسة سمير قصير من أجل حرية الإعلام والثقافة "سكايز"، مطلع العام 2017، في ذروة نشاط الإعلام المعارض، إلى أن الإعلام المعارض بقي لسنوات راديكيالياً وعالقاً عند نقطة العام 2011 من دون تطور حقيقي، ما أفضى إلى نفور الممولين منه، وتجلى ذلك من ناحية عملية في محرك البحث "غوغل" الذي لم يعط ثقته إلا لثلاث وسائل إعلام معارضة ضمن خدمة "غوغل نيوز".

والمشكلة في ذلك أن قصص السوريين اليومية من المهمشين واللاجئين والفقراء، في أي مكان ضمن سوريا أو خارجها، لا تلقى من يرويها للعالم إلا نادراً في وسائل الإعلام العالمية مثل "بزنس إنسايدر"، خصوصاً بعد طول أمد الحرب. 

والأسوأ أن الإعلام المحسوب على النظام السوري يحاول التصدي لتلك المهمة بطريقة لا تنزع الإنسانية عن أبطال تلك القصص بل تشيطنهم أيضاً، خصوصاً على صعيد الدراما المحلية التي تلقى انتشاراً عربياً، بما في ذلك مسلسلات يزعم أصحابها أنها غير مسيسة وتحاول الغوص في "قاع المجتمع" كمسلسلات الثنائي علي وجيه ويامن الحجلي، والتي تلوم السوريين على مصيبتهم، من "عناية مشددة" العام 2015 حتى "أولاد بديعة" 2024.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها