الخميس 2024/07/25

آخر تحديث: 14:11 (بيروت)

الأسد في الكرملين: غاب البروتوكول وعاد التحجيم!

الخميس 2024/07/25
الأسد في الكرملين: غاب البروتوكول وعاد التحجيم!
increase حجم الخط decrease
على عكس الاستقبال الحافل الذي تلقاه العام 2023 عند زيارته لموسكو، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السوري بشار الأسد في الكرملين، الأربعاء، من دون مراسم استقبال رسمية ومن دون أي اهتمام بالبروتوكول، بشكل يذكر بالطريقة التي لطالما تعاملت بها موسكو مع الأسد طوال سنوات، وأظهرته بصورة التابع للسلطة الروسية ذات النفوذ الحقيقي في سوريا، أو كرئيس بلدية ريفية صغيرة يتلقى الأوامر والتوبيخ من القادة السياسيين والعسكريين الروس، وحتى من الإعلام الروسي نفسه، مثلما ظهر في مقاطع فيديو وصور لا يمكن نسيانها منذ العام 2015.

والزيارة الأخيرة التي أعلنتها وسائل الإعلام الروسية فقط، الخميس، قبل أن تنسخها بهدوء وسائل الإعلام السورية الرسمية، تعيد التذكير بموازين القوى في سوريا. فلسنوات، تعرّض الأسد لمعاملة تفتقر إلى الاحترام من قبل روسيا تحديداً، ما يبرز اعتماده على الحليف الروسي للنجاة والاستمرار، فيما يمتلك حليفا النظام السوري اللذان تدخلا لصالحه عسكرياً بعد ثورة العام 2011، إيران وروسيا، نفوذاً واسعاً في السياسة والاقتصاد والأمن، مع تحول النظام تدريجياً إلى دولة تابعة تدور في فلك الحلفاء، وتناور بينهما هنا وهناك، ليس فقط بسبب اختلافات بين موسكو وطهران في قضايا متعددة، بل أيضاً بسبب رغبة النظام نفسه في الاحتفاظ بقدر من الاستقلالية التي تعود عليه بالنفع.


والطبيعة غير المعلنة ومنخفضة المستوى لهذا اللقاء، تتماشى على الأغلب مع التقارير الإعلامية، خلال الأسابيع الأخيرة، والتي تحدثت عن جهود روسيا لإصلاح العلاقات السورية التركية بشكل ظهر في تصريحات للرئيس رجب طيب أردوغان، قبل أن تتم ملاقاتها بجفاء من قبل الأسد شخصياً، قبل أيام. كما يمكن ربط اللقاء بالحرب المستمرة في غزة، والتي يمكن أن تتوسع، بشكل يتطلب مثلاً تحييد أراض سورية تضم منشآت أو مصالح روسية، ما استدعى الحاجة إلى اجتماع عاجل وغير رسمي بعيداً من الأضواء. كما أن اللقاء قد يكون استدعاء رسمياً للأسد من أجل الاستجابة للمطالب الاستراتيجية الروسية في شرق المتوسط، وضمان التزامات دمشق بالمحور الروسي، ومنعاً لأي مناورات جيوسياسية أوسع قد يفكر فيها الأسد، من أجل التقارب مع الغرب من بوابة المصالحة مع أنقرة، بما في ذلك موضوع مد أنابيب الغاز الذي يشكل حساسية لموسكو.

أي واحدة من تلك النقاط تشكل سبباً كافياً لعقد اللقاء بصورته التي تمادت في إهانة الأسد وتصويره منتظراً وحيداً، حتى لو تباهى موالو النظام بمقطع فيديو يظهر عدداً قليلاً من السيارات قالوا أنها "موكب" الأسد في موسكو. لكن سبب اللقاء يبقى تفصيلاً غير مهم، طالما أنه ينحصر في التقديرات والتحليلات بانتظار معلومات أدق يتم التصريح بها أو تسريبها للإعلام الروسي. والمثير للاهتمام أكثر، هو كيف يتناقض المشهد بشكل صارخ مع ما يجري في دمشق، حيث كانت الاحتفالات حاضرة في الإعلام السوري خلال الأسبوع الجاري بمناسبة الذكرى الثمانين لانطلاقة العلاقات الدبلوماسية الروسية-السورية "القائمة على قدم المساواة وعلى مبدأ الند للند"!


طبعاً تلك الاحتفالات تبقى من طرف واحد، يقدم فيها الطرف الأضعف علامات الخضوع للطرف المسيطر الأقوى، بشكل ظهر واضحاً في تقديم سفير دمشق لدى روسيا، بشار الجعفري، هدية لبوتين عبارة عن "سيف دمشقي" تسلمه مبعوث بوتين للشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف. وشهدت سوريا حفلات فنية وعروضاً للأوركسترا الوطنية في دار الأوبرا وندوات "فكرية" ولقاءات إعلامية تحدثت كلها عن "العلاقات المتجذرة" و"المتكافئة"، القائمة على "احترام السيادة الوطنية"، بعكس الدول الغربية، حسبما كرر مسؤولو النظام المختلفون.

ويتضافر ذلك مع التفسير الآخر للزيارة الخالية من أي بروتوكول، والتي تصور المحور الروسي على أنه محور "كاجوال" يتصرف زعماؤه بودية بين بعضهم البعض، مثلما كان الحال عندما قدم بوتين التهنئة بعيد ميلاد الأسد شخصياً بشكل مفاجئ ما جعله يظهر بصورة الزعيم الذي يعرف أدق التفاصيل الشخصية عن حلفائه من جهة، بموازاة صورته كحليف موثوق، بعكس الولايات المتحدة التي تخلت عن حلفاء لها مرات عديدة، خصوصاً في حقبة الرئيس دونالد ترامب، بما في ذلك الانسحاب الأميركي من أفغانستان والفوضى التي أحدثتها الحرب طويلة الأمد هناك والتي لم تفض إلى نتيجة تُذكر، بعكس التدخل الروسي في سوريا الذي "قضى على الإرهاب".

وليس غريباً بالتالي أن تكتب صحيفة "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم، أن العلاقات الثنائية بين البلدين تقوم على أمرين متلازمين هما "المبادئ والكرامة"، بشكل يؤسس للعلاقات الدولية "النموذجية" لأن "الاستقلالية السورية" تشكل "مشعلاً ومنارة للبلدان الطامحة للكرامة"، فيما تحرك روسيا السياسات لـ"محاربة الأحادية القطبية والتأسيس لعالم متعدد الأقطاب"، بشكل يجعل الطرفين في علاقة لا يمكن لأحدهما التخلي عنها!



هذه الكوميديا المتكررة في الإعلام الرسمي منذ عقود، تعمل على تقديم النظام لنفسه أمام جمهوره المحلي على أنه قوة مؤثرة ضمن محور عالمي مقاوم للإمبريالية. ويظهر الرئيس الأسد ضمن تلك الصورة على أنه "روبن هود" المحاصر في غابة شيروود، من قبل الدول الغربية، خصوصاً بعد العام 2011 التي أدت، لبضع سنوات، إلى عزلة النظام وفرض عقوبات متتالية عليه. ويعطي ذلك مدخلاً لتبرير الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية والنزعة العسكرية والأمنية الشديدة، عبر وضع البلاد دائماً في حالة حرب أيديولوجية لا نهاية لها طالما أنه "صراع أبدي بين الخير والشر".

وإن حضر ذلك النوع من البروباغندا في روسيا، فإن ما يربط موسكو بدمشق، متجذر في الجغرافيا السياسية أكثر من أي شيء آخر، حيثث أنشأ الكرملين قاعدة بحرية له في طرطوس شكلت المنفذ الوحيد له على العالم بعيداً من حصار حلف شمال الأطلسي "ناتو"، خصوصاً في بحر البلطيق، ما يمنح البلاد مرونة واسعة خصوصاً الضغط على الطرق البحرية وتحركات الأسطول الروسي. ولم يكن غريباً بالتالي أن تهب موسكو، للدفاع عن نظام الأسد بشراسة من أجل بقائه في السلطة، خوفاً من انقلاب في مواقف دمشق تجاهها إثر الثورة في البلاد، مهما كان الثمن باهظاً.



واليوم ضمنت روسيا بقاءها في سوريا إلى أجل غير مسمى، عبر قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، وقواعد أخرى، بفعل الاتفاقية الموقعة مع النظام السوري والتي كشف عنها أواخر العام 2016. وتصبح سوريا، في هذه الصورة، تحت الوصاية الروسية في أقل تقدير، أو كأنها مقاطعة على أطراف الإمبراطورية الروسية، لا أكثر، علماً أن مجموعة سياسيين وناشطين روس، قدموا اقتراحاً إلى بوتين مطلع العام 2017، لإنشاء كونفدرالية بين سوريا وروسيا، وضم دمشق رسمياً كجزء من الدولة الروسية، وهو خيار لم يلقَ صدىً لدى الكرملين، لكنه يعطي لمحة عن طريقة التفكير الروسية في الحليف السوري.

وعليه، فإن البروتوكول الغائب في الكرملين هذا الأسبوع، ليس سوى أحدث الحلقات في سلسلة التحجيم المتعمد للأسد منذ العام 2015، بما في ذلك الصورة الإعلامية التي تظهره يبادر بعناق بوتين في حميميم العام 2017 على سبيل المثال ومنعه من تجاوز خط أصفر مرسوم على الأرض إلا بأمر رسمي في الزيارة نفسها، إضافة إلى استدعائه إلى قاعدة عسكرية روسية العام 2020، إلى جانب الخرق الروسي المتكرر للبروتوكولات الدبلوماسية المتعارف عليها بين الرؤساء، مثل الإصرار على إزالة كافة الرموز السورية كالأعلام والصور، مقابل تكثيف رموز السيادة الروسية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها