تهرع الحاجة فاطمة (خالتي) الى الصالون حيث أجلس أمام الحاسوب، تقاطع انغماسي في العمل بعبارة "ما تنقزي" ثم تخبرني بأنّه حسب الصوت الذي سمعته والرسالة التي وصلتها على الموبايل، هناك جدار صوت آتٍ وليس ضربة. صرت في كل مرة أرى وجه خالتي أبتسم، وأكمل عملي وكأن شيئاً لم يكن.
لم يكن الحال في الحروب السابقة كذلك، أي لم يشهد اللبنانيون تثقيفاً عسكرياً مباشراً، باستثناء المنضوين في الحرب على الجبهة بحكم التدربيات والدروس العسكرية التي يحصلون عليها. لكن اليوم، مع تنشيط مجموعات "الواتسأب" الإخبارية التي ترصد الأحداث لحظة بلحظة، بدا الأمر مختلفاً.
مع دخول الحرب شهرها الثامن، لم يعد إستخدام منصات التواصل وتحديداً مجموعات "الواتسآب" و"التليغرام"، بداعي الحصول على الأخبار فحسب، وإنّما بهدف فهم مواقيت الضربات ورقعتها والمعدات العسكرية المستخدمة أيضاً. صار الجنوبيون يعرفون أنّ المسيّرة هي في العادة مسؤولة عن الاغتيالات السياسيّة والترصد، وأنّ الأضرار التي قد تنتج عنها محصورة في بضعة أمتار، وأنّ جدار الصوت يحدث صوتاً أشبه بالرياح العاتية لكنه في الحقيقة غارة وهمية، وأنّ البالونات الحرارية تهدف الى منع تعقب الصواريخ للطائرة الحربيّة الاسرائيلية.
لا نقاش في صحة هذه المعلومات بعد اليوم، وإن بدت بسيطة بطبيعتها، لكن المؤكد أنّك لن تلتقي جنوبياً في حاجة للبحث عن هذه التفاصيل في "غوغل" كي يستفيض في الحديث عنها.
تتميز هذه مجموعات السوشال ميديا بأنّها لم تعد فقد مصدراً للأخبار العاجلة، فالأمر بات أكثر تقدماً مع إرسال رسائل عن احتمال أن يواجه الجنوب ليلة موجعة، إثر الضربة التي وجهها حزب الله الى الداخل. وتأتي الرسائل على شكل "تجهزوا يا أهل الجنوب يمكن يعملو صوبنا ما تهلعوا كونوا جاهزين".. أو"ما يُسمع من صوت انفجارات قوي في الجنوب هو صواريخ اعتراضية".. أو "رسائل تثقيفية" أخرى تتناسب مع طبيعة الأحداث.
ففي كل مرة تكون الضربة قوية في الداخل الاسرائيلي، بحسب هذه المجموعات، تجد الشوارع خالية ليلاً كاستجابة للتعليمات العامة، إذ يحرص الناس على العودة إلى منازلهم في وقت مبكر من المساء كي يكونوا الى جانب العائلة "في حال كانت الضربة قريبة".
حلّت هذه المجموعات الإخبارية محل الاعلام الذي خفت اهتمامه بتغطية الأحداث في الجنوب ومناطق البقاع المستهدفة، ذلك أن شكل التطورات (البطيئة) التي حملتها هذه الحرب ما عاد عامل جذب للإعلام الذي تخلى عن النقل المباشر، وكرّس للأحداث الدامية تقريراً أو تعليقاً مقتضباً في نشرته المسائية.
أمّا بالنسبة الى الناس، فلم يعد ردّ الفعل الأول، تشغيل التلفزيون والبحث عن المعلومات عبر منصة "اكس"، وانما النظر في شاشات هواتفهم التي تغص بالرسائل فور سماع صوت عنيف.
إجمالاً، لكل قرية جنوبية مجموعة إعلامية خاصة بها، ويبدو، بحسب اللغة المستخدمة وسرعة نشر الخبر، بأنّ هناك تنسيقاً بين هذه المجموعات أو أنّها تدار وفق أيديولوجيا واحدة.
فالضرورة لوجود هذه المجموعات تنبع من حاجة الناس لمعرفة ما يدور حولهم بالعادة. لكن الحرب الحالية فرضت قواعد جديدة، اذ لم ينزح أهالي الجنوب جميعهم، الا القاطنين في القرى الحدوديّة أو على مقربة منها، ومع التوسع التدريجي الذي طاول القرى البعيدة عن الحدود، أصبحت مصائر الجميع معلقة، وبالتالي غدت الحاجة الى المعلومة أكثر الحاحاً. فالمجموعات ليست مجرد ناقلة للخبر، وإنما راصدة للتطورات العسكرية في الداخلي الاسرائيلي أيضاً، فحجم ومسافة الضربة العسكرية الموجهة الى الداخل كفيلة بأن تكون مؤشراً لتوقع ردود الأفعال من الطرف الاسرائيلي.
لكن مع غياب الدولة اللبنانية عن دورها في التوعية، والاعلام التقليدي عن تغطية المشهد، تغدو مثل هذه المجموعات جزءاً لا يتجزأ من موجبات تهدئة النفوس الجنوبية التي تشعر بعزلة اعلامية أكثر من أي وقت مضى، وإن ظهرت في قوالب حزبية، غير أنّ ذلك من شأنه أن يعزز الشعور بالمناطقية ويغرس أيديولوجيا الغلبة على اعتبار أن هذه الحرب تخوضها فئة معينة بدورعها ومعداتها العسكريّة ومنصاتها الاعلاميّة من دون أن يشترك معها أحد.
بعد خبر "الجدار"، ترسل لي الحاجة فاطمة رسالة تثقيفية الى هاتفي تحمل معلومات عن تعريف الجدار الصوتي والهدف منه. تجلس على الكنبة باسترخاء وتقلب في هاتفها وكأن شيئاً لم يكن، فيما تستكمل تصفح المجموعات الاعلامية التي انخرطت فيها.
قد لا تكون الغاية تحويل المجتمع كافة الى مجتمع عسكري، وإن كان هذا الوضع هو الأقرب الى الواقع، لكن مصادر المعلومات التي تأتينا بثقافة عسكرية باتت أمراً لا غنى عنه للتحصن من المجهول، أقله بعدما قرر الاعلام اعتكاف التغطية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها