لعل من مزايا دراما رمضان هذا العام، أنها تعيد إثارة مناقشات حول قضايا وأمور فنية أساسية، يُفترض أنها معروفة لدى المتخصصّين من صُنّاع الفن ونقّاده. لكن هذه الأساسيات باتت منسيّة أو مُجهّلة عمدًا في سباق التنافس التجاري الاستهلاكي المحموم، حيث يسعى منتجو كل عمل وأبطاله وأنصاره إلى الترويج له بما يستحقه وما لا يستحقه عبر وسائل الإعلام ومواقع السوشيال ميديا والمجموعات الإلكترونية، كما يسعون في الوقت نفسه إلى التشويش على الأعمال الأخرى، ودفعها إلى السقوط والنسيان.
في السياق الكوميدي مثلًا، الأكثر نجاحًا هذا العام من حيث قيمة التسويق وحجم المشاهدات الجماهيرية، هناك نموذجان صارخان يقفان على طرفي نقيض، من حيث الوعي بالفن وأبجديات معالجته وتقديمه، الأمر الذي يجعلهما صالحين لعقد مقارنة بينهما على أكثر من مستوى، للتفرقة بين الحابل والنابل في المناخ الذي تختلط فيه المعايير، وتضطرب المفاهيم.
هذان المسلسلان المتزامنان هما: "أشغال شقة" لهشام ماجد وأسماء جلال وشيرين وانتصار ومي كساب وإنعام سالوسة وإيمان السيد ومصطفى غريب ورحمة أحمد، من تأليف خالد دياب وشيرين دياب، وإخراج خالد دياب. و"الكبير أوي 8" لأحمد مكي وبيومي فؤاد ورحمة أحمد ومحمد سلام ومصطفى غريب، من تأليف مصطفى صقر ومحمد عز الدين، وإخراج أحمد الجندي.
يقدّم مسلسل "أشغال شقة" مثالًا ناضجًا لصناعة الكوميديا العائلية الخفيفة، القائمة على المواقف الاجتماعية الطبيعية والحوارات المتنامية، التي تتولد منها المفارقات التلقائية المحبوكة ببساطة وبلا افتعال أو استخفاف أو محاولة ليّ الكلمات أو استعراض العضلات، في سياق درامي مرح ومبهج.
ويتحقق الضحك في المسلسل من تلقاء ذاته، في السياق الأسري، من دون اللجوء إلى المبالغات أو الحركات الغريبة والرخيصة، ولا الاتكال على القفشات السخيفة والإفّيهات المبتذلة. كما يخلو المسلسل من المط والتطويل بلا داعٍ، إذ تدور أحداثه الكثيرة كلها في 15 حلقة فقط.
ويقدّم الإخراج صورة رائقة صافية ذات طابع غربي في تكنيكها وكادراتها الممنهجة ولقطاتها المتقنة، سواء في المشاهد التي تدور داخل الشقة، والتي تجري في الشارع والأمكنة الخارجية المفتوحة.
أما كلمة السر في نجاح المسلسل فهي "الكاستنغ" أو فريق العمل، إذ تم اختيار الممثلين وتوظيفهم بعناية، ومنهم مثلًا مصطفى غريب ورحمة أحمد، اللذان أعيد تقديمهما بطريقة جديدة ومختلفة تمامًا عن ظهورهما النمطي في مسلسل "الكبير أوي" في شخصيتي "العترة" و"مربوحة". ويلعب مصطفى غريب في "أشغال شقة" دور "عربي" مساعد بطل المسلسل هشام ماجد أو أخصائي الطب الشرعي "حمدي"، وتلعب رحمة أحمد دور الخادمة "هادية".
ويجسّد "أشغال شقة" قصة زوجين هما أخصائي الطب الشرعي "حمدي" والمذيعة التلفزيونية "ياسمين"، اللذين يُرزقان بتوأم، ويتعرضان لسلسلة من المشاكل، فيقرران الاستعانة بمديرة أو مدبّرة منزل لرعاية طفليهما، لكنها تفشل، فيكرران التجربة. ومع كل مساعدة يستحضرانها، واحدة بعد الأخرى، تتفجر أزمات مختلفة ومواقف جديدة متشابكة، ينخرط فيها أيضًا الأهل والأصدقاء وزملاء العمل.
وفي الجانب الآخر، فإن مسلسل "الكبير أوي" في موسمه الثامن الاستسهالي يبدو مفلسًا ومرتكنًا تمامًا إلى شعبيته السابقة في أجزائه الأولى التي كانت تراعي مقتضيات الحبكة وتهتم بفريق العمل. فقد قدّم المسلسل في بداياته ممثلين واعدين انطلقوا إلى النجومية لاحقًا، ومنهم مثلًا دنيا سمير غانم وهشام إسماعيل، اللذان لم يظهرا في الجزء الثامن، ومحمد سلام، وبيومي فؤاد، وآخرون.
أما النجوم المستمرون في "الكبير أوي 8"، وعلى رأسهم أحمد مكي ومحمد سلام وبيومي فؤاد، فإنهم اتجهوا إلى الأداء اللفظي المنفرد، في ظل انعدام مقوّمات الدراما، وغياب العمل الفني ببنائه الجماعي.
وقد تآكل في المسلسل الفقير، مفهوم صناعة الكوميديا والضحك، ليحل محله الاستظراف المصطنع، وإطلاق النكات المتوقعة، واعتصار الإفيهات المكرورة، والإتيان بحركات وإشارات بهلوانية، ونطق الحروف بطريقة غريبة، في محاولات بائسة من صنّاع العمل لانتزاع الابتسامات عنوة من أفواه المشاهدين.
لقد صار "الكبير أوي 8" بكل أسف مثالًا لسوء التوظيف، والافتعال، والسخف، والإسفاف، وثقل الظل، إلى جانب بلوغه الذروة في المط والتطويل وابتداع أحداث غير منطقية، لتستوعب كليشيهات الشخصيات الباهتة. فهل يعتذر أحمد مكي وفريقه للجمهور عن المسلسل، على غرار ما فعله بيومي فؤاد في الموسم الرمضاني العام 2020، عندما اعتذر للجمهور وقتها عن المستوى الباهت لمسلسل "رجالة البيت"؟!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها