الثلاثاء 2024/09/17

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

وجوه الدرّاجة.. الفن في الشارع والحياة

الثلاثاء 2024/09/17
increase حجم الخط decrease
ليس أجمل من أن يتوصل الفن إلى معناه الحقيقي كحياة نابضة مكتملة الأركان. الفن البصري تحديدًا هو الأقرب إلى الحواس، وهو الأحرى بالتفاعل المرن مع البشر، في الشوارع والميادين والحدائق والمتنزهات والشواطئ، في الأمكنة المفتوحة، في الهواء الطلق، ليدرأ عن نفسه تلك الاتهامات الملصقة به بالتعالي والنخبوية والغموض والانعزال، وليسهم في إعادة صياغة الصور والمشاهد الواقعية في عالمنا القاسي البائس، على نحو أكثر ترتيبًا ونظامًا ووداعة ودفعًا إلى الإيجابية والإقدام.

لربما تعني الدرّاجة، في حدود وظيفتها الاعتيادية، وجوهًا كثيرة ملموسة، فهي مَرْكبة التريّض البدني الآمن الشهيّ، ووسيلة التنقّل الصديقة للبيئة، بالإضافة إلى ما تعنيه أيضًا من تفجير الانطلاق الوجداني والخيالي، وتغذية اللياقة الروحية، وما إلى هذه الأمور. أما وجوه الدرّاجة الأخرى، التي تلتقطها عيون الفن الكاشفة، فهي تشكيلات منفلتة خارج الأطر المألوفة، ومتنوعة بشكل كبير، بعدد رؤى الفنانين ووجهات نظرهم ومعالجاتهم المبتكرة والتجريبية.

توسعة المفاهيم
في هذا الفلك، تدور تلك التصميمات البديعة، التي يقترحها مجموعة الفنانين الشباب من طلّاب كلية الفنون الجميلة بالجامعة المصرية الروسية في القاهرة، حيث يقدّمون في مشروعهم الجماعي "المسار" عشرات التصورات المغايرة للعلاقة بين الكتلة والفراغ، وينتجون عشرات المسارات الخاصة للدرّاجة، في حركتها على الأرض، وفي صعودها وتحليقها عاليًا.

وتأتي التعبيرات المجسّمة من منظور توسعة مفهوم الدرّاجة ماديًّا ومعنويًّا، وتوسعة الأفكار بشأنها، وذلك من خلال الاشتغال الفني عليها، كوحدة كاملة، أو كجزء، أو كمجموعة أجزاء، أو كتكوينات مركّبة تجمع أكثر من دراجة أو أكثر من وحدة معًا. 

والأهمّ في هذا المشروع الجماليّ، بإشراف الفنّان إسلام عبادة، ومعاونة الفنّانين يمنى شريف ومحمود رشدي ومايكل وحيد وزينة أحمد، هو أن غايته وفلسفته نقل الفن إلى الحياة والأمكنة العامّة وقلوب البشر، أي أن يكون الفن الحيوي للاستعمال المباشر وليس للتحنيط.

مسارات تخييلية
أما اختيار "المسار" عنوانًا للمشروع الملهِم، فتوضح التشكيلية يمنى شريف عضوة فريق العمل؛ المدرّس المساعد بالجامعة، في حديثها لـ"المدن" أنه عنوان متعدد الدلالات، شأنه شأن أعمال الفنانين والفنانات المشاركين، فهو "يعبّر عن مسارات الدرّاجات الإبداعية اللانهائية، ومسارات المبدعين الشباب أنفسهم كفنّاني الحاضر والمستقبل، ومسارات الحالات التي يُحْدثها التأثر بهذه الأعمال، فالفن باعتباره حياة قادر على أن يُشعر المتلقي بالبهجة أو المرح أو الحزن أو الخوف أو القلق". 

وفي ظل انتشار الأعمال النحتية المسيئة في الميادين العامة، التي لا تصلح للعرض ولا ترقى إلى مستوى الفن، فإن هؤلاء الفنانين الشباب من قسم النحت "يدفعهم الأمل إلى تحقيق إضافة في ما يخص نشر الجماليات البصرية الرفيعة في الطرقات، من خلال تجاربهم في التجهيز في الفراغ، التي تدل على وعي معرفي وموهبة فطرية وقدرة تخييلية". 

التغذية الذهنية والبصرية
تعكس مغامرات الدرّاجة بأيدي مجموعة الفنانين الشباب تراكمات واضحة، فنية وثقافية، ورصيدًا خصبًا من التغذية الذهنية والبصرية، النظرية والتطبيقية، بشأن تاريخ الدراجة، ومحطات تطورها عبر مراحلها المتتالية، وكيفية تعاطي الفنانين العالميين البارزين من مدارس وتيارات متباينة مع الدرّاجة وعناصرها في أعمالهم التشكيلية.

ورغم أن النحت قد يوحي بأنه فن الثبات النسبي، فإن الحركة تأتي قاسًما مشتركًا بين معظم التصميمات، التي تتعامل مع أجزاء الدراجة في التشكيل المختصر، أو الدراجة المكتملة، أو مجموعة الدراجات. وهذه الدينامية تمنح التكوين الانسيابية والسيولة والانطلاق والتحرر، والتمدد أفقيًّا ورأسيًّا في اتجاهات متعددة، بما في ذلك غزو الفضاء، وهي كلها قيم جمالية ومثيرات شعورية ونفسية يراهن الفنانون على تمريرها إلى المتلقي، لإدهاشه ومباغتته ورفع سقف توقعاته المسبقة وخلفياته الضيّقة.


وتتخذ الدرّاجات المتحركة أشكالًا وثيمات متنوعة، بحيث تبتعد عن توصيفات الدراجة المعروفة. وهي تلتقي في بعض هذه الأشكال والثيمات مع كثير من الكائنات الحية، خصوصًا الطيور والأسماك والأشجار السامقة، إلى جانب الكائن الآدمي في تجلياته المرنة والانسيابية، كلاعبي السيرك والأكروبات والجمباز الإيقاعي.

كما تأتي خامة الحديد كركيزة لعمل التصميمات كلها، سواء باستعمال أجزاء من دراجات حقيقية، أو التعامل مع الحديد الخردة أو حديد البناء، وذلك لسهولة معالجة الخامة وطواعيتها، خصوصًا بالنسبة للفنانات، وأيضًا لتحملها العوامل الطبيعية على المدى البعيد، على اعتبار أن التصميمات معدّة في الأساس لتناسب العرض في أمكنة مفتوحة، يرتادها المواطنون العاديون.

مشروع "مسار"، وجبة جمالية عصرية، تُحيي ببساطة عناوين عريضة من قبيل "فن الشارع" و"فن الميدان" و"الفن حياة"، وتعيد صياغة الأشياء والمفاهيم معًا خارج وظائفها وأدوارها النمطية وقاموسيتها الجاهزة الجامدة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها