الإثنين 2024/07/15

آخر تحديث: 10:13 (بيروت)

"الرقمية" كمصنع للدهشة وإنتاج الحياة والإبداع

الإثنين 2024/07/15
"الرقمية" كمصنع للدهشة وإنتاج الحياة والإبداع
الشاعر الحقيقي في السياق الرقمي والمدارات المعلوماتية والتكنولوجية القائمة في عصرنا الحديث، هو ذلك المتفجر بشعريته الغضَّة،
increase حجم الخط decrease
لم تعد "الرقمية" اصطلاحًا علميًّا مبسّطًا يشير إلى تقنيات برمجية محددة لنقل المعلومات وتخزين البيانات في صورة أرقام، ومعالجتها وتداولها عبر أجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت. فلقد صارت الرقمية بتمثلاتها الحديثة اللانهائية بمثابة مصنع للدهشة وإنتاج الحياة بالكامل بوجوهها المتنوعة. ولعلها الآن الأكثر حساسية ودقة وقدرة على التعبير عن روح هذا العصر، وفلسفته، وتجارب من يعشيون فيه من البشر، المُطَوَّرين معرفيًّا وخياليًّا.

كيف تمددت الرقمية إلى سائر مناحي الحياة، وتسللت إلى جوهر العملية الإبداعية، إلى درجة أن "الروبوت" قد صار يتنفس شعرًا؟! هذا السؤال هو أحد محاور النقاش في مؤتمر الشعر العالمي المنعقد في مدينتي بكين وهانغتشو في الصين (يوليو/تموز 2024) حول الابتكار في الشعر، بتنظيم اتحاد كتّاب الصين، وبمشاركة كاتب هذه السطور بورقة حول الرقمية ودورها في تحولات الشعر العربي.

إن تأثر الكتابة الشعرية الجديدة بالرقمية وثورة التكنولوجيا والاتصالات والنشر الإلكتروني ومدارات شبكة الإنترنت وتطبيقاتها المتنوعة ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من تجليات الألينة والحاسوبية، لا يقتصر على التقاط مصطلحات علمية أو تعيين مفردات كمبيوترية غريبة عن حقل الشعر في عنوان ديوان أو متن قصيدة هنا أو هناك. فليس المقصود ذلك التمسح الظاهري للأدب بالرقمية بطبيعة الحال. ولكنّ تأثير الرقمية الحقيقي على الكتابة الشعرية هو معادل لتأثير الرقمية على حركة الحياة ذاتها، أي أن تكون الرقمية فلسفة ونسقًا حاكمًا ومتنًا وتطبيقًا وانشغالًا وممارسة وأسلوب تفكير واستشعار، وليست هامشًا أو ظلًّا أو خلفية للنص الإبداعي.

ومن تمثلات هذا الحضور الطاغي للتجربة الحياتية الرقمية في الكتابة الشعرية الطليعية الجديدة، الحيوية بالضرورة، أن معطيات النص الشعري ومحدداته ومنطلقاته وتصوراته صارت مقترنة بوجود الشاعر في تلك الغرفة الكونية الصغيرة كصورة للوطن الأشمل أو كمفهوم واسع للانتماء. فالقضايا الكبرى والمصيرية والملحّة التي تغازل المبدع ويراها تصل بينه وبين أصدقائه من البشر في كل مكان، هي تلك المرتبطة في الأساس بحضور الإنسان في العالم، أكثر من ارتباطها بما هو متغير ومتبدد من انشغالات اجتماعية أو سياسية أو انتماءات دينية أو عرقية أو طائفية وما إلى ذلك من نسبيّات ضيقة وأوضاع متحركة وخصوصيات متضائلة.

ومن ثم، فإن الهموم الحياتية والإنسانية المشتركة هي ميدان الكتابة الشعرية المستساغة في هذا المضمار، وذلك بعد ذوبان الحواجز وتلاشي الحدود على كافة المستويات بين شعراء الكوكب الأرضي الذين صار يعرف بعضهم بعضًا، وبين المبدعين وقرائهم في سائر الأرجاء، وبين الكائن البشري وشقيقه الإنسان في أي مكان بصفة عامة. 

ومن بين معالم النص الشعري الجديد واستراتيجياته أيضًا أن الفضاء متاح للشاعر ليكتب ما يتشهاه، وقتما يشاء، بالأسلوب الذي يرضاه. وأن النشر الإلكتروني بصوره المتنوعة عبر الموقع الشخصي أو المدونة أو الميديا الرقمية واسعة الانتشار أو وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، سوف يقي الشاعر من كل البوابات الانتقائية الحاجزة ذات الصبغة النخبوية أو الرسمية أو السلطوية أو الرقابية. فالنشر متاح وميسر، بل إن الشاعر قد يكون من حقه أحيانًا تنسيق قصيدته بيده، وتنميقها وفق مزاجه الخاص، وتثبيتها في هذه الصفحة أو ذلك المنبر الإلكتروني، وكذلك إمكانية الإعلان عنها بطرق شتى، لضمان ترويجها قرائيًّا على نطاق كبير. 

ومن تأثيرات الحياة الرقمية الأخرى، مضمونيًّا وشكليًّا، على الكتابة الشعرية الجديدة، أن المبدع ينتقي عادة لنصوصه أوعية لغوية سهلة، حية، ذات طبيعة توصيلية في الأساس قبل القيم الجمالية والموسيقية الزخرفية التقليدية، حيث إن ما في المجازات من التواءات وانحرافات قد يقف دون سيولة العملية الشعرية، بتوليفتها المغايرة الراهنة. ولقد أدت الرقمية والثورة التكنولوجية إلى خلق علاقة مباشرة إلى أبعد الحدود بين الشاعر والجمهور في العالم الكوني، وانزاحت مسؤوليات المؤسسات والهيئات والجهات الرسمية والحكومية إلى غير رجعة كقوى وسيطة أو مهيمنة. فالشاعر الرقمي لم يعد ينتظر إجازة أو تصريح مرور من أحد، أيًّا كان، ولا إقرارًا بجودة كتابته كي يتمكن من نشر دواوينه شعبيًّا. 

وإذا كان ما نعيشه هو عصر الرقمية والتقنيات والثورة الاتصالاتية والمعلوماتية، فإن هذا النمط الحياتي الجديد، المتشابك المنسجم، هو ما يكتبه الشاعر حاليًا. وإن لم يفعل ذلك، فهو صاحب تجربة مفتعلة، منفصلة عن حدود واقعها. ويعد النشر الإلكتروني تعبيرًا ملموسًا عن الاجتياح الرقمي للعملية الشعرية، ويبقى على الشاعر الحقيقي أن يتفهم ويستوعب بعمق أن الأهم من انتقائه الرقمية وعاء للنشر، إذا أراد، أن يأتي ما يقدمه في هذا في الوعاء جديدًا، وأن يكون المضمون رقميًّا في طبيعته، ليمكنه ترجمة معاناة الإنسان وأزماته وآلامه وطموحاته وآماله وأحلامه في عصر الرقمية المادي الآلي.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن يتم نشر هذه الأعمال الشعرية العصرية بصيغة رقمية. فالجوهر الشعري الرقمي هنا ليس مرهونًا بوعاء الطباعة، ولا بتلك الخطوات البطيئة التي يحبو بها ما يسمى بالأدب الإلكتروني العربي، ولا بضعف الجوانب التقنية في عالمنا العربي. وإنما يتعلق هذا الجوهر الشعري النقي بالموقف الإنساني الشامل من هذه الرقمية المتحكمة، وتفاعلات البشر معها ماديًّا ومعنويًّا في كل لحظة من لحظات يومهم العادي في الوقت الحالي.
على أن هناك بعض الأمور التنظيرية والإجرائية والتكنيكية، المتعلقة بتأثيرات الصبغة الرقمية الحياتية على الكتابة الشعرية العربية الحديثة، حال بثها في فضاء إلكتروني. فهناك إبهارات وإمكانات لشبكة الإنترنت مثلًا تمنحها امتيازات في النشر عند مقارنتها بالنصوص المطبوعة. وذلك لأن الشبكة العنكبوتية تتسم بأنها تفاعلية، وأكثر اختيارية من الناحية الرسومية من أي مجال من مجالات اللغة المكتوبة في العالم الحقيقي. ومن خصائص الرقمية ومزايا الفضاء الإلكتروني الأخرى اتساع دائرة توصيل النص الشعري، والانتشار، وسرعة التواصل، فبضغطة إصبع بسيطة يمكن للعالم أجمع التواصل مع النص ومرسله. 
وثمة شعراء تمكنوا من استكناه الرقمية والتعاطي المتعمق معها في أعمالهم، بحيل ومعان كثيرة، منها ذلك التناقض الكامل بين التطور التكنولوجي الذي تعكسه الشبكة العنكبوتية، والبدائية القصوى التي يتقصاها إنسان يبحث عن ذاته الهاربة، على سبيل المثال، أو أنسنة محرك البحث "جوجل"، كمحاولة للاتصال بالعالم الإلكتروني ومقوّماته ومفرداته، في صيغة شعرية خاصة تعيد تقديم هذه المفردات، وتقييم علاقتها بذات الشاعر ووجوده، وبث عالمنا الإلكتروني في صيغته الجاثمة على الإنسان المعاصر، وقراءة الذات الإنسانية وهي تتلظى في صرامة الرياضيات ووحشية التكنولوجيا وعنف الأصفار الرقمية، وما نحو ذلك من رؤى ثرية زاخمة.
وفي النهاية، فإن الشاعر الحقيقي في السياق الرقمي والمدارات المعلوماتية والتكنولوجية القائمة في عصرنا الحديث، هو ذلك المتفجر بشعريته الغضَّة، لا ببلاغياته الجاهزة أو حتى المنحرفة عن الأنساق اللغوية والشكلية المقولبة. والمجدد المُخلخل هو المجدد المُخلخل بشعره الطازج كفاكهة الموسم المجلوّة وسط المعلّبات المرصوصة. وهو ذلك الشاعر الذي ينتقل بطموحه من تحويل البنية اللغوية والتخييلية والأدائية للقصيدة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فيقدم الشعر ذاته كمذاق مختلف، ذلك الشعر الحي لا المختلق، الذي تَنبت الكلمات وَيَنبت الحصى، حتى الحصى، في تربته الخصيبة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها