الأحد 2024/09/29

آخر تحديث: 10:09 (بيروت)

اشتعالات الحرب.. وبراكين الشعر المصري الجديد

الأحد 2024/09/29
اشتعالات الحرب.. وبراكين الشعر المصري الجديد
بريشة سامية حلبي
increase حجم الخط decrease
لا تعرف القصيدة المصرية الجديدة هدوءًا، لاسيما قصيدة النثر، لدى أجيالها المتتالية، وعلى الأخص القصيدة السائدة خلال الفترة العصيبة الحالية، والنصوص الحديثة المقتحمة التي يكتبها الشعراء الشباب، تعبيرًا عن ذواتهم المتشظية في واقع منهار. 
هي قصيدة وُلدت من رحم الخطر والمعاناة والقلق والمكابدة اليومية على سائر الأصعدة، وهي مشحونة بحمولات فردية مأساوية بعدد لحظات الليل الكابوسي والنهار المعتم، ومنغمسة بالضرورة في الهمّ الجماعي والدمار الشامل المحيط، بكل تفاصيله وتشابكاته التي لا حصر لها.

تتفاعل القصيدة الجديدة في مصر مع الناس والأحداث الصارخة من حولها، بقدر انفتاحها على الأنا الشعرية الواحدة التي تميّز صاحب كل نص ببصمته التعبيرية ومعالجته الجمالية الخاصة. وهي، بهذا التوجه، تكاد تنفي عن نفسها اتهامات التعالي والنخبوية والعُزلة والتشرنق والانفصام عن الشأن العام.
ومنذ تأجج الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتنامي الدراما الدموية في المنطقة العربية إلى ذروتها، مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية وبلوغها أقصى درجات الهمجية والوحشية، فإن القصيدة الجديدة في مصر هي وجه من وجوه الغليان الإبداعي، وتربة خصبة لنشاط البراكين وتوالد التفجّرات.

كيف تتسع القصيدة الجديدة لهذه المعطيات كلها، من دون أن تنزلق إلى رجعيات وفخاخ كثيرة يمكنها أن تنال من فنياتها المجردة وتقودها إلى خطابية بيانية أو منبرية قولية أو مباشرة أو فجاجة أو مناسباتية ظرفية وغيرها من الأمور التي تمردت عليها القصيدة البصرية المكتوبة في الأساس؟ هنا تكمن صعوبة الامتحان، وتتجلى التباينات بين الشعراء الواقفين معًا تحت مظلة محنة واحدة.
وبغض النظر عن هذه الفروقات النسبية فوق ميزان التحليل النقدي، فإن الظاهرة الثابتة المؤكدة هي أن تيارًا جارفًا في القصيدة المصرية الجديدة بأجيالها المتعاقبة، يمكن اتخاذ نصوصه الحديثة خلال هذه الآونة مؤشرات واضحة ومرايا أمينة لما تشهده المنطقة من اشتعالات وحروب وصراعات وانقسامات وتوترات.

هذه الظاهرة، بشواهدها المتعددة، بالإمكان تتبّعها ببساطة، وذلك بالإطلال على جُملة النصوص المنشورة حديثًا للشعراء المصريين في إصدارات وأنطولوجيات ومنابر متنوعة، ورقية وإلكترونية، إضافة إلى ما حرص الشعراء على قراءته من نصوصهم الجديدة في المؤتمرات والملتقيات المحلية والعربية والدولية، بالتوازي مع احتدام الأحداث في المنطقة.
أما السؤال الذي تستحيل إجابته، أو أن إجاباته تتعدد بتعدد الشعراء أنفسهم، فهو المتعلق بهدف الشاعر من كتابته عن هذه الكوارث كلها، في ظل عجز الكلمة أن تفعل شيئًا ماديًّا ملموسًا من أفعال المقاومة والتحرر. ولكن الكلمة الإبداعية النبيلة على أية حال تبقى توثيقًا للنضال، وتسجيلًا للتاريخ، وإثباتًا للمشاركة والتضامن، وفضحًا لممارسات العدو.

الشاعر عاطف عبد المجيد يسأل نفسه "ماذا ستصنع قصيدة أو حتى مليار من القصائد لأطفال يُتّموا أو شُرّدوا أو قُتّلوا؟ لقد تساوى الكل أمام هؤلاء الأنذال الذين لا يمكن وصفهم بأنهم من جنس البشر". وهو يدين الكلمات القاصرة على طول الخط، حتى في نصوصه الشعرية هو ذاته التي يتناول فيها المعركة الدائرة "في مسألة القدس، أرى كل العرب كطفل مقطوع الساقين/ لستُ أبالغ طبعًا، لكن من يختلف معي، فليخبرني ماذا قدّمنا للقدس سوى كلمات عاجزة، أو مصمصة الشفتين؟".
ويمتد هذا الشعور باللاجدوى إلى شعراء قصيدة النثر الشباب، ولكنه لا يثنيهم عن استيعاب ما يدور على الأرض في كتاباتهم، ذلك أن الأرض نفسها "تقرأ الخارطة، تتعلم ما يثير غضب البراكين، يهدئ من ذعر الرياحِ، تتقن هضم الموتى جميعًا"، كما تقول الشاعرة لبنى حمادة صاحبة ديوان "رصاصة تتلوى في خط مستقيم" في نص جديد لها. 

ومثلما أن الخراب أعلى التلة هو "راعٍ يعزفُ نشازاتٍ" عند لبنى حمادة، و"اللون الأحمر الطافح إعلان عن انسحاب قوس المطر"، فإن الشاعرة إيمان جبل تنظر من شرفة الضياع والعبثية والعدمية أيضًا إلى المشهد المُرعب، على اعتبار أن الصدق الإنساني وحده لا يكفي للسرد عن القتل المجّاني وفقد الأهل والأحبّاء وفساد ضمير العالم "كان على الحرب أن تكون طريّة، كي نعجنها على شكل وسادة/ كان على الحياة أن تدمّر فكرة الفرصة الثانية، لأن القتلة يعرفون دومًا كيف يأكلون قلبك، من نفس الموضع مرتين!".
وليس فقط البشر هم الذين صاروا لا حول لهم، ولكن الكون كله "بلا حيلة، فارغ، أخرس، أعمى، جبان" وفق الشاعر أحمد دومة، والعالم المتخاذل بأكمله "جثة"، وفق الشاعر سالم الشهباني. وبماذا يجدي التعاطف، إلا إذا تحوّلت "الشين" في كلمة "معلش" إلى لسان لهب، كما في قصيدة الشاعر تامر عبد الحميد؟ 
وتحرث الشاعرة منى عبد اللطيف النهر الذي لا يزال متمسكًا بوجوده، وتدعوه لكي يسبح في داخلها الحيّ، عساه أن "يزلزل الليل، ويسحق أوكار الطغاة". إنها الأيام البائسة، التي "يعود فيها الوطن إلى فراشه، فلا يجده"، وفق الشاعر مصطفى السيد سمير. 
وهكذا، فإن "الجغرافيا صارمة، حين تمدّ أطرافك إلى مخيمات جارك"، بحد قول الشاعرة رضا أحمد. ولا يمكن للمواقف الحقيقية أن تتحدد في هذا الواقع المرير إلا "من المسافة صفر"، حيث تنوب البندقية عن القلم في الكلام، كما في قصيدة الشاعر منتصر حجازي. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها