لا تهدأ الساحة اللبنانية من النقاشات والأخذ والرد حول قضايا معينة، إلا أنها تصبح أكثر حدة عندما تصطدم البلاد بعدو خارجي. هذا هو الحال منذ توسع الحرب الإسرائيلية على لبنان، لتصبح حرباً متعددة الأشكال، تستهدف المدنيين وتبيد مناطق بأكملها. إذاً، إسرائيل عدو لبنان بحسب ما تقر به القوانين اللبنانية.
يتجه النقاش اليوم إلى القطاع الصحافي تحديداً، حيث ينشر العاملون فيه، في مواقع التواصل الاجتماعي، التحليلات والآراء، ويتبعها تراشق الاتهامات بالخيانة أو العمالة أو فقدان المهنية الصحافية. تثير هذه النقاشات أسئلة حول ماهية حرية التعبير وحدودها، والفارق بين التحليل الصحافي والتحريض السياسي.
يتضاعف التعقيد حينما يتداخل دور الصحافي كناقل للمعلومة، مع دوره كناشط سياسي، مما يحول الإعلام إلى ساحة معركة بين الموضوعية والترويج لأجندات سياسية أو دعاية مضادة. هذا الحال لا يشير إلى نجاح الدعاية الإسرائيلية، بقدر ما يُبرز الحاجة الملحّة إلى تنظيم العمل الصحافي وتحديد ضوابطه. فبينما تستفيد إسرائيل من حالة الانقسام الداخلي، يبقى على الصحافة أن تؤدي دورها بحذر ومسؤولية مجتمعية، ولو بدا هذا النقاش ساذجاً.
حظر قانوني لأي دعاية للحرب
تشير المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بأنّه "تحظر بالقانون أية دعاية للحرب". وتحظر أيضاً "أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف". بمعنى آخر، تضع هذه المادة حدوداً لحرية التعبير عندما يتعلق الأمر بخطاب يشجع على العنف أو الحروب أو التمييز ضد الآخرين. فكيف لو كان الحال في بلد واحد، مثل لبنان، تنشط فيه آلة القتل الإسرائيلية.
في هذا السياق، يشير النقاش الدائر في مواقع التواصل الاجتماعي إلى التحديات التي تواجه الصحافيين. فعلى الرغم من أن حرية التعبير حق مقدس، إلا أن هناك مسؤولية مجتمعية يجب أن يتحملها الصحافي، خصوصاً في ظل دعاية مضللة قد تستغل النقاشات لتعميق الانقسامات.
وهنا، لا يتعلّق الأمر بالشخصيات التي وظّفتها إسرائيل لنشر الذعر بين اللبنانيين في ظل الحرب. كمثل ما نشره الإسرائيلي إيدي كوهين في "أكس": "شو في بمركز دار الامل بسن الفيل جنب حديقة حرش تابت؟؟ في غموض كبير جدا داخل هدا المكان؟؟؟"، وهو ما وجّه قوى الأمن الداخلي، بإشارة من القضاء المختص، للكشف عن مبنى دار الأمل، وتنفي هذه المزاعم.
الحديث هنا يتعلّق بالمجتمع اللبناني ومكوّناته وصحافييه وناشطيه. منذ توسع الحرب الإسرائيلية، حاول بعض الصحافيين تصويب الموقف، بمنشور بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي: "علينا أن نعي ونتفق الآن أن إسرائيل هي عدونا". هذا ما وصلنا إليه. والنقاش الحقيقي لا يكمن في هذه النقطة تحديداً الآن، بل في ما يتعلق بالحدث نفسه، الحرب الإسرائيلية على لبنان قائمة ومستمرة.
أحد الأمثلة على التحريض كان في تغريدة تدّعي أن مسعفي "الهيئة الصحية الإسلامية" هم مقاتلون وليسو مدنيين، وهو ما أثار جدلاً حول دور الصحافة في نشر مثل هذه الاتهامات من دون تحقق قانوني. وبعدما حذفت الناشرة التغريدة عقب "مراجعة قانونية"، يتضح أن المعلومة المنشورة افتقدت للمسؤولية المجتمعية. هذه الفوضى تعيد النقاش إلى نقطة أساسية وهي مسؤولية الصحافي كناقل للخبر ومحلل موضوعي.
صحافي أم ناشط السياسي؟
التراجع عن التغريدة أو حذفها، لا ينفي أنها انتشرت، وأجّجت الشارع اللبناني لتراشق الاتهامات بالتخوين. النظر هنا إذاً بالناشر، والتفريق بين كونه صحافياً أو ناشطاً. فالناشط هو من يسعى إلى تغيير اجتماعي أو سياسي، وقد يكون أكثر تعبيراً عن آرائه الشخصية. أما الصحافي فهو من يعمل على نقل الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي ومن دون تحيز، وعليه في موقعه الالتزام بالمعايير الصحافية والأخلاقية.
وفي ظل النقاش المستمر حول حرية الصحافة وحدودها، تبرز الحاجة إلى التمييز بين حرية التعبير واستخدام الإعلام كمنصة للترويج لأجندات سياسية. الصحافة المهنية تتطلب تقديم المعلومات بحيادية وموضوعية، وليس استغلالها لتمرير مواقف شخصية أو سياسية تحت غطاء حرية التعبير.
تقرير "إم تي في" المتناقض
كمثال آخر على ذلك، جاء تقرير قناة "إم تي في" حول وجود مسلحين في بعض مراكز الإيواء. فقد دعمت القناة تقريرها، معتمدةً على مقاطع فيديو لدعم هذه المزاعم. ومع ذلك، فإن هذه الفيديوهات لا تقدم دليلاً قاطعًا على وجود مزاعمها، إذ إن الفيديو الذي قيل أنّه لنازح في مرجعيون "مدجّج بالسلاح"، على سبيل المثال، أكّد شهود عيّان أنه لمسلح من "القوات اللبنانية". كما أن الفيديو المرتبط بسن الفيل لم يظهر أي أسلحة. هذا التناقض يثير تساؤلات حول دقة ومصداقية المعلومات المقدمة.
إضافة إلى ذلك، نفى النائب غسان حاصباني عبر حسابه في "أكس" وجود مسلحين في منطقة الصيفي، لا من قبل نازحين ولا من غيرهم"، ما يضعف من مصداقية التقرير. اللافت أيضًا في التقرير هو استخدامه لأسلوب هجومي عند الرد على الانتقادات، حيث وصفت القناة بعض الصحافيين والناشطين الذين انتقدوها بعبارات مثل "صحافيين فاشلين" و"صحافيات الفاشلات". مثل هذه اللغة تُعد غير مهنية، إذ تحوّل النقاش من محاولة الرد على الانتقادات بشكل موضوعي إلى هجوم شخصي يستهدف تشويه سمعة المنتقدين وأحياناً تخوينهم.
كما تُلاحظ في التقرير محاولة تحويل القضية إلى معركة حول "الوطنية"، حيث تم اتهام المنتقدين بالسعي إلى تصفية حسابات شخصية بدلاً من مواجهة الانتقادات ببيانات أو أدلة ملموسة تدعم صحة المعلومات المنشورة. اللجوء إلى تفعيل النقاش حول "الوطنية" في مثل هذه السياقات يمكن أن يكون وسيلة للتلاعب بالعواطف الشعبية وإلهاء الجمهور عن القضايا الجوهرية المطروحة.
حرية التعبير والتحريض
يعدّ الحق في حرية التعبير أحد الحقوق الأساسية التي تضمنها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ينص على حق كل فرد في التعبير عن آرائه بحرية وبلا تدخل. الفصل بين حرية التعبير والتحريض يتركز على طبيعة الرسالة وتأثيرها. حرية التعبير تحمي حق الأفراد في التعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية دون قيود، حتى وإن كانت هذه الآراء مثيرة للجدل أو غير محبوبة، طالما أنها لا تنتهك القانون أو حقوق الآخرين.
في هذا السياق، تتيح حرية التعبير النقاش المفتوح والنقد البنّاء حتى في المواضيع الحساسة. أما التحريض فيشير إلى دعوة أو تشجيع الآخرين على ارتكاب أعمال ضارة مثل العنف أو التمييز. يُعتبر التحريض تجاوزاً للحرية المشروعة في التعبير، حيث يصبح تعبيرًا يقود إلى ضرر مباشر مثل تهديد سلامة الآخرين أو التحريض على أعمال عدائية.
ومع ذلك، تعاني حرية التعبير في العديد من الدول من تضييقات وانتهاكات، حيث تستغل الحكومات تشريعات مكافحة الإرهاب أو الأمن القومي لقمع الأصوات المعارضة. والفاصل بين حرية التعبير والتحريض يكمن في طبيعة وتأثير الخطاب. حرية التعبير تعني حق الفرد في إبداء آرائه وأفكاره بلا رقابة أو قيود، طالما لا يتجاوز القانون أو ينتهك حقوق الآخرين.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها