"وات آر يور هوبيز؟"، "شو هواياتك المفضلة؟".. سؤال يتردد دائماً في مقابلات العمل، في المحادثات عبر تطبيقات المواعدة، في الموعد الأول، في اليوم الأول في المدرسة، في جلسات العلاج النفسي أحياناً: "شو بتعملي بس تحسي حالك زعلانة؟"، سألتني المعالجة في الجلسة الثانية، "مممم.. ببكي مرات إذا قدرت"، "لا قصدي مثلاً شو بتحبي تعملي، هواياتك يعني!". والغريب أني صرت أعرف أن السؤال مصيره التكرار، لكني لم أستعد له يوماً، فأصمت.
...وأنا في سن السادسة والعشرين من عمري، ما زلت لا أجد ما أحب. أجيب دائماً بأني أكتب، ليُردَّ عليّك "لكن هذا عملك، فماذا تحبين غيره؟". لم أحب شيئاً بصراحة، لم أمتلك الرفاهية لأفعل، فقدت نفسي وأنا أتنقل من مكان إلى آخر، من منزل إلى آخر، من مدرسة إلى أخرى، حتى بين أبي وأمي في فترتي طلاقهما ثم عودتهما. كنت طفلة في عائلة همّها الأكبر تأمين نفقات التعليم. لذلك، قضيت وقتاً كافياً في المدارس الداخلية، أو تلك شبه المجانية ثم المدارس الرسمية.
لم يعلمني أبي السباحة، لم أحظ بوقت كافٍ معه، ولا حتى لأتعلم "الدبكة" التي كان يتقنها. أبي أحب التصوير لفترة وجيزة من حياته، هذا ما أخبرتني إياه الصور القديمة التي كان يحتفظ بها للعائلة. لم أر أمي تفعل شيئاً آخر خارج إطار الأعمال المنزلية. لذلك، تأخرت لأعرف أني يجب أن أمارس هواية ما، وحتى حين أيقنت ذلك، لم أفعل شيئاً حياله.
في المدرسة الداخلية دخلت تجربة الكورال الموسيقي. كانت جيدة، لكن مع الضغط النفسي الذي كنت أمر به عقب تواجدي في المدرسة، والعنف الذي كنا نتعرض له هناك، لم أتخذها هواية، كانت أحياناً مثل الواجب المدرسي، تتأخر في إنجازه فتتأخر بالحصول على وجبة طعامك. لذلك كرهته أحياناً، حتى بعد مغادرتي المؤسسة، لم أغنِّ، وتلاشى صوتي مع الوقت.
كانت لجدّي غرفة في القبو لا يدخلها أحد، لكننا كنا نعلم ما تحويه. قبل أن تتداعى ذاكرته، أخذ بيدي وأدخلني غرفته السرية، وكمُرشد فني، راح يتنقل معي من زاوية إلى أخرى. كم رغبت أن أحصل على إحداها، تلك التماثيل النحاس والقطع النادرة، حصان من النحاس ونارجيلة نحاسية وأسد نحاسي والكثير من الأشياء الأخرى جمعها جدّي على مدى سنوات. كبرنا وكبرت معنا تلك القطع، بل زاد عددها. وما إن توقف جدي عن العمل إذ تراجعت صحته بعد وفاة جدتي، راح يقل عددها شيئاً فشيئاً. في الواقع، لم أعرف يوماً ما هي مهنة جدي الأساسية، كانت له أرض يزرعها في الضيعة ويقطف حصادها ويبيعه، وكان يجر عربة يجمع فيها الخردة في صيدا، وكانت له تلك الغرفة في القبو.
في أيامه الأخيرة، سألت عمي عن تلك الغرفة التي تحولت فجأة إلى مكان لجمع الحراتيق والأشياء غير المستخدمة. "شو صار بالنحاس يا عمو؟"، باعه جدي. وما بقي منه، باعه عمي لتأمين العلاج جدي. أُقفلت تلك الغرفة بعد رحيل جدي، وأنا أفكر كيف ولماذا جمع جدي كل تلك القطع، هل كانت إرثه، أم مجرد هواية استمتع بها؟ كنت أتمنى أن أحتفظ بقطعة واحدة، أنا أيضاً أحب الاحتفاظ بالأشياء، القديمة، المرتبطة بمن أحب. يقول صديقي عبد، أن هذا ليس له أي علاقة بالهواياتن إنما بعدم قدرة أشخاص مثلي على الانفصال عن الماضي.
لطالما رغبت في تعلم الرقص أو العزف على البيانو، أو ربما ركوب الدراجة الهوائية التي كانت كابوس الوالدة خوفاً من خطر فقدان العذرية من طريق الخطأ. رغبت في أشياء كثيرة، لم أمتلك الرفاهية أو الوقت لتحقيقها، فكبرت وأنا أؤمن بأن الهوايات للأغنياء، أما نحن فعلينا أن نكبر مع أحلامنا بالحصول على مستقبل ينقذنا. لا أفكر في إنجاب الأطفال، على الأقل حتى الآن الفكرة غير واردة، لذلك لا أقول كما تقول إحدى صديقاتي "رح عيّش أولادي يللي ما عشته". أنا أريد تعلّم الرقص اليوم، وركوب الدراجة، رغم خوفي من السقوط أمام عيون المارة وأنا في هذه السن.
منذ انتقالي إلى المدينة، لم أحظ بهدوء يخولني التفكير في الأمر. أرقص أحياناً كما أحب، وأفكر في ارتياد صفوف الرقص في الشارع المجاور، لكن، عند نهاية كل شهر، تحاصرني الفواتير وارتفاع الأسعار وخطر فقدان منزلي مرة أخرى.
"كل شي طبقي يا سارة"، أحدث صديقتي عن هذا النص. توافقني الرأي، فهي كانت تراقب الفتيات في المدرسة المجاورة في قريتها، يتعلمن ركوب الخيل، وأتقنّ ألعاباً أخرى لم تحفظ أسماءها. لا يهم، ولماذا نحفظ أسماء الأشياء التي لن نحصل عليها؟ أنا أيضاً لم أحفظ حتى الآن اسم الرقصة التي أرغب في ارتياد صف لتعلمها، عاهدت نفسي أن أحفظ اسمها في يومي الأول... وإلى أن يأتي ذلك اليوم، أفكر كيف يمكن لرقصة أن تحمل خلفية طبقية.
تعكس الهوايات شخصية صاحبها، هكذا يقال في علم النفس، ومن المهم أن تذكر هواياتك في اللقاءات الأولى، لتترك انطباعاً جيداً عند الطرف الآخر. لكني سأبقى أصمت عند هذا السؤال، ولو تعلمت الرقص قريباً، لا لشيء، سوى أنه ربما في منزل مجاور، على بُعد بضعة كيلومترات من منزلي، هناك طفلة لا تعرف الإجابة عن هذا السؤال أيضاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها