أنا أيضاً قلقة في بيروت، كلنا كذلك. لا ينتهي القلق في هذه المدينة، لا ينتهي القلق في هذه البلاد، في الواقع خرجت من الفيلم أكثر قلقاً! بعد السنة الأولى والثانية ثمّ الثالثة، هذه اللعبة أكبر منا جميعاً بالفعل، لعبة موت اشتركنا فيها جميعاً رغماً عنا، وكل ما سيمر في هذا النص هو "كليشيه قلق" نمر به يومياً. أما فيلم "قلق في بيروت" فهو ذاكرتنا التي سنحملها معنا، عندما ننجو من البلاد في "طيارة أو تابوت أو بتسافر أو بتموت" كما يقول زكريا في فيلمه.
الفيلم الوثائقي "قلق في بيروت" للمخرج زكريا جابر، هو قصتنا جميعاً، لذلك لا مجال للحديث عن الصورة والصوت وتقنيات التصوير. فالصورة هي نحن في السنوات الثلاث الأخيرة، كما في السنوات المقبلة. والصوت هو ما نجا منا في محاولة بائسة لتخطي ما مضى، أو ما نحن عليه. لذلك ربما يجب ألّا نتحدث هذه المرة فقط عن الفيلم، بل عمّن شاهدوه.
خارج المعهد الفرنسي في السفارة الفرنسية في بيروت، خرج المشاهدون إلى الباحة بعد ساعة ونصف الساعة، أمضوها، يلهثون داخل فيلم زكريا جابر، داخل هذه الصورة لذلك، وأنا مثلهم، ربما عليّ أن أبدأ بنفسي هذه المرة. كان من الصعب طرح أي سؤال على المخرج للتحضير لكتابة هذا المقال. صفعة قوية تلقتها ذاكرتي، خرجت مع الجميع وجلست أراقب نفسي وأراقب الآخرين، أراقب القلق، الكل متعب، وأنا أيضاً. أول سؤال طرحته على صديقٍ التقيته هناك: "هل حقاً مررنا بهذا كله؟".. ثم سألت نفسي: هل البقاء على قيد الحياة بعد تخطي ذلك كله يعني النجاة؟ بعد ثورة واعتداءات ثمّ وباء ثمّ انفجار ثمّ انهيار، ثمّ أنا أحدثكم من القاع حيث وصلت البلاد ونحن معها، فهل حقاً نجونا؟ وإذا كان هناك مَن نجا منّا، فمَن هُم؟ أصدقاؤنا الذين أوصلناهم إلى المطار؟ أم أصدقاؤنا الذين مضوا منتحرين؟
وداع
في الفيلم يودع زكريا أصدقاءه، الواحد تلو الآخر ينقلهم إلى المطار. كلنا فعل ذلك ثلاث مرات على الأقل خلال السنوات الأخيرة. أذكر جيداً كيف ودّعت ثلاثة من أصدقائي المقربين في أسبوع واحد، إلى تركيا وإلى فرنسا وآخر إلى الإمارات العربية. وأذكر أيضاً كيف أنهى كريم حياته في العام نفسه. لذلك أكرر اعتذاري، لن أخرج من هذا النص لأني دخلت هذا الفيلم مثل كثيرين ممن كانوا في صالة العرض. "طيارة تابوت… منسافر أو منموت"، يرددها مجدداً زكريا جابر في الجزء الأخير من الفيلم، ثم يعتذر عن تكرارها، وأنا أقول، وربما على أحدهم أن يفعل ذلك، بل أكثر من ذلك.
تُكتشف طبقات تاريخ المدن من خلال بُنيتها المادية. في بيروت يختلف الأمر، لم تبق أبنية كثيرة لتخبر قصتها. كثيرة هُجّرت، وأخرى مات قاطنوها، وأخرى شُيدت مكانها أبنية جديدة بفضل المساعدات التي قدمتها جمعيات المجتمع المدني بعدما فُجّرت المدينة. تحذير: كليشيه قلق.
يجبرنا جابر أن نتذكر ما لم ننسَه، لكننا ننكره. هذه المدينة التي شاهدنا الفيلم في إحدى صالاتها، فُجّرت منذ ثلاث سنوات، وإن كان هناك متسع من الوقت مجدداً للحديث عن ذلك اليوم، فلا شيء يُقال سوى أننا قلقون في بيروت، أعني ما زلنا كذلك. تُخبر الحجارة حكايات المدن، وحين تُهدَم، فعلى أحدهم أن يُخبر قصة سكان هذه المدينة. وبعد سنوات، أو ربما غداً، في حلقة جديدة من مسلسل جرائم النظام، إذ تم قتلنا جميعاً هذه المرة، ربما هذا الفيلم الذي سيعرض قريباً في مهرجان شنغهاي الدولي يتولى المهمة ويخبر قصتنا، فيكون أرشيفنا إن مَضَينا، وذاكرتنا الجمعية إن صمدنا يوماً آخر.
من الخاص إلى العام، من المنزل إلى الشارع، يتنقل زكريا، ثم إلى المنزل مجدداً. يقدم مشهداً تلو الآخر، يحاول لملمة ذاكرتنا الجمعية في شريطه وينجح! شريط يهيّئك للانتقام لكل ما حدث، ثم ينتهي بك عاجزاً، "في دولة وهيك شكلها!".
دائماً في جلساتنا مع أصدقائنا من دول عربية مجاورة، نخوض نقاشاً حول "الرفاهية التي يعيشها اللبنانيون هنا"، هذا ما قاله أحدهم، "بتطلعوا مظاهرات بتحكوا وكتير أمور أخرى"، في إشارة إلى أننا نعيش في "حرية" و"نظامنا أرحم من أنظمتهم". تلك الحياة المقنَّعة، والحرية المقنَّعة والأمان المقنَّع، التي يروج لها النظام، كلها ساقطة. الأحداث والمشاهد التي عرضت في الفيلم، شهدناها جميعاً، وشاهدنا بعضها على التلفاز، لكن جَمعَها في شريط واحد يثير الخوف والعجز عند مشاهدته.
من خلال عين شاهِدِها، نقل زكريا تجارب المقيمين فيها (فرح درويش، يحيى جابر نور حجار وآخرين). نعيش مع الشخصيات التي وثّق المخرج ارتفاعاتها وانخفاضاتها في هذه المدينة، ونشعر بالترابط مع كل منها وكل تفصيل، لأن ذلك كله بدا وكأنه انعكاس لصورة شعب كامل في المرآة أو في الشاشة. نقل زكريا خيبات آمالنا، كباراً وصغاراً. نقل لنا شعور الجيل الذي عاش الحرب الأهلية في السبعينيات، ثمّ كيف تفاعل مع كوارث السنوات الأخيرة أيضاً، وحين يشعر هؤلاء بالقلق، فاعلموا أن ما حدث يدعو لأكثر من ذلك. كل مشهد، كنا نظن أنه الأخير، ثم تبدأ مرحلة أخرى أو حدث آخر، "آه حدث ذلك فعلاً"... "عنجد كل هيدا صار؟" لا ينتهي هذا الفيلم وسيبقى يكرر نفسه حتى بعد انطفاء الشاشة العملاقة مع فارق واحد :"الدم"، لا ينتهي نزيفنا في هذه المدينة.
إن توالي الصدمات يتجاوز قدرتنا على الاستيعاب بعد توقف مظاهر الحياة. كثر منا لجأوا للعلاج النفسي بعد انفجار بيروت مثلاً، حيث انتشر العلاج المجاني في الفترة الأولى في جمعيات ومراكز المجتمع المدني، حتى إن كثيرين بقيت أسماؤهم في لوائح الانتظار بسبب التدافع لتلقي العلاج. كلنا يريد أن ينسى. بعضنا تعلم سريعاً كيف يتعامل مع عوارض الصدمة، وبعضنا لم يستجب حتى الآن.
يرى متين باسوغلو، أحد مؤسسي كُلْيَة دراسات الصدمة النفسية في جامعة كينغز كوليدج في لندن، أن الاستجابة للصدمة النفسية لا تقتصر على العلاج النفسي، بل ستحتاج جهوداً موازية لتفسير الحدث الصادم ومساعدة الناس على استيعابه عبر القنوات الإعلامية، سواء في المنشورات أو مقاطع الفيديو وقنوات الأطفال وقنوات التلفاز والصحف والإنترنت. ربما هذا نفتقده، أن يعترف أحدهم/كلهم بارتكاب الجرائم. ويقول باسوغلو إن آثار الصدمة الجماعية ليست نفسية فحسب، بل تطاول آثارها المجتمع بأكمله، فالذاكرة الجماعية تصوغ الذاكرة الفردية التي تمزقنا كأفراد وتعصف بنا كنسيج اجتماعي.
"قلق في بيروت"، يصور وجوهنا التي تتركب منها ملامح المدينة. في الغضب، في الثورة، في الوباء، ثم في الإنفجار، في الموت، في الفَقد، في الانهيار، في الخوف، ثم بعد هذا كله..لماذا لا أكون قلقة في بيروت؟
(*) عُرض الفيلم في مهرجان "شاشات الواقع" في بيروت في دورته الـ18 الذي تنظمه جمعية متروبوليس ضمن سلسلة أفلام أخرى العام في "سينما مونتين" (المعهد الفرنسي في لبنان).
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها