بعد النجاح المدوي لعدد من المسرحيات التي أدت فيها دور البطولة مع المخرج عزيز عيد (1884-1942)، انتقلت روز اليوسف للعمل مع فرقة عكاشة المسرحية، إحدى أنجح وأشهر الفرق في منتصف العشرينات من القرن الماضى. أصبحت روز بطلة الفرقة الأولى، وطافت مع الفرقة مسارح مصر الكبرى في ذلك الوقت.
في الصيف كانت الفرقة تؤدي عروضها في الإسكندرية، ونزل أعضاء الفرقة في أحد فنادق المنتزه الفاخرة. صودف أن طلعت حرب، رجل الأعمال ومؤسس "بنك مصر" وأحد رموز الحداثة المصرية الليبرالية، كان نزيلاً في الفندق نفسه، وبالطبع كان طلعت حرب يمتلك حصة في الفندق، ويمول بشكل أساسي الفرقة المسرحية. وبينما كان يتناول إفطاره في الصباح، شاهد روز اليوسف تخلع ملابسها وتلج البحر بمايوه قصير. لم يكن "بكيني"، لأن "البكيني" لم يكن قد اختُرع بعد في ذاك الزمن. بل كان مايوهاً من قطعة واحدة يكشف الذراعين، والصدر، ويغطى جزءاً بسيطاً من أعلى الفخذ، تاركاً بقية الساقَين للشمس.
صُعق طلعت حرب من المنظر، ليس بسبب جمال روز اليوسف الفاتن، بل لما اعتبره تهجماً على الأخلاق والمثل العليا، وتهديداً لقيم المجتمع المصري. وبحُكم مركزه وموقعه كذكَر مصري يمتلك الكثير من المال والنفوذ، شعر طلعت حرب، كأي ذكَر في موقع سلطة، بمسؤوليته عن أجساد الآخرين، وعن قيم المجتمع الذي يعيشون فيه. أرسل مع "جرسون" رسالة اعتراض لروز اليوسف، طالباً منها أن ترتدي ملابسها وألا تجلس على الشاطئ بالمايوه، لأن هذا إخلال بسمعة الفندق والفرقة المسرحية التي يمولها.
في ذاك الزمن، كانت هناك قِيَم وأخلاق متاحة للأجانب المقيمين في مصر، وقِيَم وأخلاق للعرب والمصريين. فمُتاح للأجنبيات ارتداء المايوه، بل والمشي عاريات أن أرَدن، بينما كانت النساء المصريات تحت وصاية الأزهر، والمَلِك، والنيابة، والآن طلعت حرب و"بنك مصر".
لم تستجب روز اليوسف لرسالة طلعت التحذيرية، بل سخرت منه، وقامت من مكانها لتتمشى بالمايوه في استعراض لجمالها ونفوذها الفنى. انفعل "زكيبة الفلوس الوطنية" من الإهانة، وأرسل مهدداً مدير الفرقة بوقف تمويله للفرقة. وآنذاك، لم تكن خسارة طلعت حرب تعني خسارة تمويل كبير فحسب، بل خسارة "بنك مصر"، البنك "الوطنى" الوحيد الذي يجازف بدعم فرقة مسرحية محلية. فذهب أعضاء الفرقة إلى روز اليوسف، وحاولوا إقناعها بأن تعتذر لطلعت حرب، لكن ممثلة مصر الأولى التي صنعت شهرتها في بطولة مسرحية عزيز عيد "يا ست ما تمشيش كده عريانة"، رفضت أن تعتذر عن المايوه أو أن تذهب إلى طلعت حرب، فهددها مدير الفرقة بالتخلي عنها وطردها، فقدّمت استقالتها وتركت الفرقة.
في اليوم التالى، انتظرت روز جلوس "الباشا" في شرفة الفندق أمام البحر لتناول طعام الإفطار، وتعمدت أن تنزل بمايوه أجرأ من سابقه، ومكثت في الفندق أسبوعاً آخر، لا لشيء سوى لتستفز طلعت حرب وتتلذذ بتمريغ سلطته في رمال شاطئ الإسكندرية، بينما يطيّر الهواء شعرها الأشقر.
(روز اليوسف)اليوم، وبعد حوالى مئة عام على تلك الواقعة، ما زالت مصر مشغولة، كما كل صيف، بمعركة البكيني والبوركيني، وما يجب أن ترتديه النساء وأين يرتدينه. وكما مصر العشرينات، حينما سادت التفرقة بين النساء المصريات العربيات، والأجنبيات، فهناك اليوم أيضاً تفرقة بناء على الطبقات الاجتماعية والحدود بينها.
عدد محدود من حمّامات السباحة والشواطئ الخاصة في مصر لا يسمح بنزول السيدات بالمايوه الشرعي "البوركيني"، ولا يقبل سوى البكيني أو ستايل "مايوه روز اليوسف". الدافع المعلن هو ذاته دافع أبيهم التاريخي، زكيبة الفلوس، طلعت حرب، أي الدفاع عن قيم وأخلاق المجتمع. لكن حقيقة الأمر أن لا طلعت حرب، ولا أعداء "البكيني" أو "البوركيني" يهتم بأي قيم أو أخلاق. الدافع دائماً وأبداً هو السلطة، والنفوذ، والمال. وكيفية احتكار الثلاثة ووضع قواعد منظمة لعملية انتقالها وهرمية التسلط.
كان طلعت حرب يدافع عن قيم مجتمع جديد، يصفه بأنه المجتمع الوطنى المصري الناهض من طين الأراضي الزراعية، ليخلع الجلباب ويرتدى الطربوش، ويتخلى عن لقب فلاح لصالح لقب أفندي، ويرفع العلَم ويغنى "قوم يا مصري". وفي تصوره وأقرانه، فإن قادة هذا التغيير هم المصريون الذكور فقط، كاملو المصرية والذكورة معاً. وبالتالي، فإن نهضة الحركة النسائية التي صاحبت ثورة 1919، لم يكن مسموحاً أن تعبّر عنها سوى هدى شعراوي المنتمية إلى الطبقة الاجتماعية نفسها التي يخدمها طلعت حرب، والتى تقتصر مطالباتها على الحقوق السياسية والاقتصادية.
أما النساء المتمردات مثل روز اليوسف، القادمات من قاع المجتمع، من حانات عماد الدين والأزبكية والمسرح، فلم يكن مسموحاً لهن بالحركة والتمرد إلا في المساحات المحددة سلفاً، المسارح والبارات وصالات الرقص. فليست المشكلة في المايوه أبداً. فمايوه الأجنبية لم يضايق طلعت حرب في العشرينات، كذلك، في يومنا هذا، إذا كانت السيدة التي ترتدي "البوركيني" أجنبية ونزلت حمام السباحة الممنوع فيه "المايوه الشرعي"، فلن يوقفها أو يعترضها أحد.
اللعنة ليست في أن تكون المرأة، امرأة. بل أن تكون امرأة ومصرية. مِصرية المرأة تضعها تلقائياً تحت وصاية مجموعة من المؤسسات والأفراد، ساعتها يتم تحديد ما هو مسموح وغير مسموح لها بناء على وضعها الطبقي.
الأماكن المعدود التي لا تسمح بدخول المحجبات أو نزول النساء بالبوركيني إلى البيسين، تفعل ذلك لأنها تبيع امتيازاً طبقياً لجمهورها. الامتياز ليس نزول الإناث في مياه البحر أو البيسين، الامتياز هو أن تنزل في البيسين ذاته حيث يتبول أبناء وأحفاد الوزراء والرؤساء السابقين.
في الفيديو الذي انتشر مؤخراً، وتشكو فيه إحدى الفتيات من منعها النزول إلى البيسين بالبوركيني، حددت الفتاة بيسين أحد النوادي الفخمة، وأشهر مَن يسكن في تلك المنطقة ويمتلك عضوية في النادي، مثلاً، عائلة جمال مبارك، ونخبة من أثرياء وأغنياء ولصوص مصر الكبار. بالنسبة إليهم، إذا سمحوا بنزول النساء بالبوركيني، فهذا يعنى خسارتهم أرضاً جديدة، وامتيازاً طبقياً جديداً يفصلهم عن جموع الشعب الوطنى الذي وضع طلعت حرب أولى لَبِناته منذ قرن من الزمن.
قبل مئة عام، لم تفاوض روز اليوسف على حريتها وقرارها، لم تبكِ أو تحاول الاعتماد على إيقاظ التعاطف بين الجمهور، بل كان اختيارها أن تستغل أدواتها (الفن/المسرح/الصحافة) لتغيير هذا الوعي، ولفرض رؤيتها وأفكارها حتى تصبح جزءاً من المجال العام، ولو خسرت وظيفتها وتركت فرقتها المسرحية.
في مجال سياسي مغلق، وفي لحظة خضوع المجال العام وكل وسائل التعبير، للتأميم، لا يجد الاحتقان الاقتصادى والكبت السياسي وسيلة للتعبير عن نفسه، سوى أجساد النساء. فتُعاد المعارك نفسها حول مايوه النساء ولباسهن، مثلما كان الحال قبل مئة عام… لكن المرء يبحث حوله فلا يجد روز اليوسف ولا مِشعلها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها